قصص مخابراتيـة| أرمجارد شميدت.. جاسوسة فوق العادة هزت عرش "سي أي إيه"
![غلاف كتاب "نساء في قطار الجاسوسية"](https://watanimg.elwatannews.com/image_archive/840x473/6443046351496838817.jpg)
غلاف كتاب "نساء في قطار الجاسوسية"
لم تكن كغيرها من النساء في ذلك الوقت، فكانت تمتلك جمالا بارعا، وقدرات فذة، وذكاء حاد، استطاعت بهم أن تكون واحدة من أهم الجاسوسات بجهاز المخابرات في برلين الشرقية، في خمسينيات القرن الماضي، حيث تمكنت أن تقتحم مبنى المخابرات الأمريكية، وتصبح سكرتيرة وعشيقة لواحد من أهم الرجال فيه، وتحقق انتصارا ضخما، أصاب الـ"سي أي إيه" بأضرار بالغة، ما دفع القاضي الذي حوكمت أمامه لأن يحكم عليها بالسجن 5 أعوام، رغم أن الادعاء كان يطالب بسجنها 3 فقط.
"أرمجارد".. كانت عميلة محترفة، أصبحت ترسا في آلة جهنمية، حسبما وصفها به الكاتب صالح مرسي في روايته "نساء في قطار الجاسوسية"، قائلا إنها كانت تتمتع بسحر من نوع خاص، وأجمع كل الذين عرفوها أو تعاملوا معها أنها انت قريبة الشبه إلى حد كبير من الممثلة الأمريكية مارلين ديتريش.
في عام 1958، بينما لم تكن "أرمجارد" تعدت الثلاثين من عمرها، حينما بدأت مهمتها "الخطيرة بالغة الجرأة"، على حد وصف مرسي، والتي استهلتها بسفرها إلى موسكو في الشهور الأولى من ذلك العام، لتتلقى دورة تدريبية مكثفة للغاية، اكتسبت فيه مهارات مهمة ومختلفة، كالتدريب على التركيز في التفاصيل الصغيرة، وشفرات جديدة للرسائل، واستعمال كاميرات بالغة الصغر، مثبتة في خاتمها، وأخرى في إصبع أحمر الشفاه، فضلا عن دراسات دقيقة بشأن الجيش الأمريكي، ودراسة شخصية الرجل الأمريكي نفسه، ما ولد داخلها يقينا بأن مهمتها غير عادية.
وفي مطلع مايو، استدعاها العميل المخابراتي رفيع المستوى "أرنست ووليبر"، رئيس شعبة الخدمة السرية، لاجتماع ضخم، شارك فيه عدد من رؤساء جهاز مخابرات ألمانيا الشرقية، الذي أخبروها فيه عن طبيعة مههمتها وهي "اختراق رئاسة المخابرات الأمريكية في برلين الغربية"، ما أصابها بالصدمة لعدة ثوان ومشاعر متناقضة بين الخوف والزهو.
كانت الفكرة تعتمد على أن تتقدم أرمجارد إلى المخابرات الأمريكية في برلين باسمها وشخصيتها الحقيقيين، على أنها عميلة تعمل لحساب مخابرات ألمانيا الشرقية، ووصف صالح الأمر بأنه "فكرة شديدة البساطة لكنها جهنمية عبقرية تتجلى في نقطة تبدو مهمة إلى أقصى حد، وهي أن أرمجارد ليست حديثة العهد بالعمل في المخابرات، وأن هناك احتمالا أن تكون المخابرات الأمريكية رصدتها وتعلم بنشاطها، وإذا تقدمت بصفتها الحقيقية فهذا تدعيم للمعلومات التي يمتلكها الأمريكيون وتقدم لهم صيدا صمينا وسيلا من المعلومات، وسيقدمون لها كل المعلومات التي تلزمها كي يصدق الأمريكيون حكايتها".
بعد أسبوع، دلفت العميلة المخابراتية إلى مبنى المخابرات الأمريكية في برلين الغربية، لتخبرهم بقصة مفبركة استعانت فيها بقدارتها التمثيلية، وهي أنها وقعت في حب مدرسها الشيوعي بالجامعي، الذي استغلها للإيقاع بواحد من أهم رجال المخابرات الأمريكية في ألمانيا الشرقية، تسبب في جرح عميق لهم في ذلك الوقت، وأدلت لهم بكل المعلومات الصحيحة عن ذلك الأمر التي تزودت بها من جهازها المخابراتي، على مدار أسبوعين.
عمدت "أرمجارد" إلى التأثير على مشاعر ضباط جهاز المخابرات الأمريكية، إلى أن التقت رئيسهم الكولونيل بريتشارد، 46 عاما، حازم التصرفات، حسن السمعة، متفانٍ في عمله وعائلته وأحفاده الخمسة، حاد الذكاء، استطاعت أيضا إقناعه والتأثير عليه بشدة، إلى أن عرض عليها العمل كسكرتيرته الخاصة، وهو ما كان انتصارا باهرا وذروة النجاح بحصولها على تلك الوظيفة التي تضعها في قلب المبنى، وتمدها بكل الأسرار، وخلال أسابيع أصبحت مضرب الأمثال في دقة العمل والتنظيم، حيث منحت الوظيفة كل مهاراتها، حتى أطلق عليها الكولونيل لقب "ذراعي اليمنى"، على حد قول مرسي.
تدفقت تلك المعلومات بشكل منقطع النظير إلى برلين الشرقية، وهو ما أثار ثائرة واشنطن التي تأكدت من وجود جاسوس بها لصالح السوفييت، ولذلك تم إسناد مهمة الكشف عن ذلك الأمر إلى الرائد بيكر الذي سافر الى برلين الغربية، في سرية تامة، سبقها إجراءات سرية بالغة الدقة عن موظفي الإدارة، وكانت "أرمجارد" واحدة منهم، التي أفادت المعلومات عنها بأنها شخص لا غبار عليه، ولكن الحاسة السادسة داخله تحركت ناحيتها، لذلك فصلها من وظيفتها.
وهو ما أثار ضيق الكولونيل الذي تمكن من إعادتها للعمل بعد لقائه "بيكر"، ولكن بقطاع السلاح الجوي، حيث الأسرار المتاحة قليلة تماما، ثم انتقل فيما بعد بريتشاد إلى واشنطن تحت رقابة بالغة الصرامة، ولذلك لم تستطع "أرمجارد" الحصول على معلومات كثيرة، سوى بعض الردارات وأنواع الطائرات الجديدة.
ووضع "بيكر" خطة للإيقاع بها، حيث استعان بضابط وسيم "ألفريد مينز" لكي يوقعها في شباكه فالتقاها منتحلا شخصية مترجم وثائق مهمة بالمخابرات الأمريكية، وهو الشرك السهل للغاية الذي ابتلعته رغم ذكائها، وتوطدت علاقتهما سويا حتى عرض عليها الزواج، وانتهزت الجاسوسة الألمانية ذلك الوقت للحصول على معلومات ثمينة.
ويروي مرسي "فأخبرته أنها تلقت عرضا من الشرق يطلب أسماء الضباب الجدد في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وحاولت إقناع مينز به ولكنه تصنع الرفض أياما متعددة، إلى أن أعطاها ورقة مدون بها ما تريد بالفعل وانصرف، ومضت في طريقها لإعطائهم الورقة، ولكن في هذا الأثناء تم إلقاء القبض عليها".
وبتلك الحيلة البسيطة وقعت "أرمجارد" فريسة للمحاكمة أمام المحكمة الأمريكية العليا في برلين الغربية، وطالب المدعي العام بسجنها 3 أعوام، غير أن القاضي حكم عليها بخمسة أعوام.