مدير معهد المخطوطات العربية: التمكين لـ«لغة الضاد» لن يكون إلا عبر «قرار سياسى»
الدكتور فيصل الحفيان
قال الدكتور فيصل الحفيان، مدير معهد المخطوطات العربية، التابع لجامعة الدول العربية، عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، إن هناك من يتآمر على اللغة العربية بغرض إزاحتها، وإن المتآمرين يعملون فى سبيل ذلك على نشر اللغات الأخرى مجاناً، مشيراً إلى أن التمكين للعربية يكون عبر «قرار سياسى» فى المقام الأول. وأضاف «الحفيان»، الذى يشغل أيضاً منصب خبير بمجمع «الخالدين» القاهرة، فى حوار لـ«الوطن» أن «العربية» ماتت فى الأندلس عندما حُظر الكلام بها، وأن جزءاً كبيراً منها أصبح ميتاً اليوم، لأنه لم يعد كثير من الناس يُدرك الفروق بين الاستخدامات اللغوية المختلفة للألفاظ والتراكيب.. وإلى نص الحوار.
بعيداً عن أى تحيّز.. هل ثمة ما يميز اللغة العربية عن سائر اللغات الأخرى؟
- هذا سؤال وجيه للغاية، لأنه دائماً يطغى على الذين يحبون العربية عشقهم لها، وهذا العشق يتجلى فى قولهم إنها لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة، ومثل هذه الاستنادات حقيقةً لا قيمة لها بالنسبة للآخرين، وسبق أن كنت مشاركاً بإحدى المحاضرات فى كلية دار العلوم جامعة القاهرة، وقلت آنذاك إن اللغة العربية لغة مقدسة، لكن بعض الحاضرين قالوا إن اللغات كلها على سوية واحدة، وإنها مجرد منتوج بشرى لا علاقة له بالقداسة، والشاهد أن هذه القضية ينبغى أن توضع فى الحسبان، نحن حينما نتحدث عن اللغة العربية، لا نتحدث عنها بحكم ارتباطها بالدين الإسلامى وانتمائنا لها وباعتبارها لغة القرآن، وهذا الهاجس كان عندى منذ فترة مبكرة.
وأولى خصائص اللغة العربية، ولعل أهم ما يميزها هو انتماؤها لفصيلة اللغات المتصرفة، التى لا تعتمد على السوابق واللواحق، فإذا رغبت فى إنشاء معنى جديد، لا تعتمد أن تلحق بها شيئاً فى الآخر، أو تلحق بها فى البداية شيئاً آخر، سواء كان ذلك حروفاً أو ألفاظاً، إنما هى تعتمد على توليد اللفظ اللغوى، وهو ما نسميه بـ«الاشتقاق»، بمعنى أن الكلمة تلد كلمات، مثل كتب، كاتب، مكتوب وكتاب، ولعل علماء اللغة فى الغرب ينظرون إلى اللغات المتصرفة باعتبارها أرقى اللغات، لأن مفرداتها تشبه إلى حد كبير الأسر، مثل «أسرة كتب، أسرة قرأ» وهكذا، وبالتالى فإن هذه اللغات لها القدرة الأكبر على التعبير، علاوةً على أنها لغة ثرية، والثراء اللغوى قضية قديمة، وكان عالم النحو ابن جنى، فى القرن الرابع الهجرى، قد قال عن العربية إنها «اللغة الشريفة»، فقضية الإعجاب باللغة العربية قضية قديمة للغاية.
فيصل الحفيان لـ«الوطن»: هناك من «يتآمر» على اللغة العربية
وماذا عن اللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية وغيرهما؟
- منذ شهور أثرت فى المنتدى التراثى الخاص بمعهد المخطوطات العربية، قضية «العربية بين اللغات»، ولعلك تلاحظ أن العنوان جاء محايداً، وطلبت من الدكتور سعد مصلوح، أحد أهم الأساتذة فى مجال اللغويات، أن يحدثنا عن اللغة العربية فى موازنة موضوعية علمية مع بقية اللغات، فأثبت فى موازنة بين العربية والإنجليزية والروسية، أن العربية تتميز بالثراء اللغوى من خلال الموازنة بين عدد الجذور، أى الكلمات التى تتولد منها كلمات أخرى، فى اللغات الثلاث، فكان نصيب اللغة العربية 25 ضعف ما فى الإنجليزية من جذور، كما وازن كذلك بين الألفاظ والدلالات، وتبين «مصلوح» أن المعنى الواحد فى العربية يأخذ أكثر من شكل ارتباطاً بأشياء، وعلى سبيل المثال، كلمة «CUT» فى الإنجليزية تعنى «قطع»، لكن فى العربية فإنها تتعدد بتعدد الأشياء، فهناك صلَّم الأذن، وجَدع الأنف، وبتر اليد، وجَذّ الرأس، وبالتالى فإن صلَّم وجَدع وبتر وجَذّ ألفاظ تعنى القطع لا مقابل لها فى اللغات الأخرى، ما يعنى أن العربية أكثر دقة فى التعبير.
كذلك اللغة العربية ثرية، والشىء الواحد فيها له أسماء متعددة، وهو ما يسمى فى الإنجليزية بـ«متعدد الدلالة»، وفى العربية بـ«المشترك»، أو كما يسمونه فى علوم القرآن باسم «الوجوه والنظائر»، كذلك هناك التضاد، ويعنى أن اللفظ الواحد له معنيان متعاكسان، وكل هذا يمثل جانباً من الثراء اللغوى المميز فى العربية، أما الأمر الآخر فهو التركيب، فأنت حينما ترغب فى التعبير عن شىء فى لغة أخرى، تعبر عنه بقالب محدد، على سبيل المثال «خالد مُسافر»، لكن الأمر يختلف فى العربية، فهناك عدة قوالب للتعبير عن سفر خالد، فهناك خالد مُسافر، ومُسافِر خالد، وإن خالداً مسافر، وإن خالداً لمسافر، وكل تركيب من هذه التراكيب له دلالة، وحالياً فى الصياغات اللغوية.
المُشكلة ليست فى تعلم اللغات الأجنبية لكن فى التعليم بها.. والعامية ليست مبتورة الصلة مع الفُصحى.. ونعانى حالياً مأساة اسمها «ازدواجية التعليم» بأكثر من لغة.. وهناك فصام وشرخ بين اللغة والتفكير
هل هذا الكلام معروف للعامة؟
- لا، هذا الكلام ما عاد موجوداً، إلا عند أهل الاختصاص من اللغويين والأدباء، ولذلك فإن جزءاً كبيراً من العربية أصبح ميتاً، لأنه لم يعد كثير من الناس يُدرك الفروق بين هذه الاستخدامات اللغوية، لأنه لم يعد هناك اهتمام بالعربية، فما بالك بهذه الفروق، أذكر أن الدكتور سعد مصلوح ذكر أنه فى الإنجليزية والروسية هناك قالبان للتعبير عن شىء واحد، يقابلهما فى العربية سبعة قوالب، لذا فإن ذلك كله يؤكد أن هناك ثراء على مستوى الألفاظ والدلالات والتراكيب. الكلام كثير حول اللغة العربية، فهناك من يرى أنها واحدة من اللغات السامية، هذا قول، وهناك من يرى أنها أُم اللغات السامية، وهذا قول آخر، وهناك قول ثالث يرى أن العربية أصل اللغات، لكن بلا شك ما هو مقطوع به عند علماء اللغات، أن اللغة العربية من اللغات المتصرفة، والشواهد موجودة، كذلك هى من أثرى اللغات على مستويات خمسة، هى الصوتية والخطية والنحوية والتركيبية والدلالية.
ما أبرز ما تواجهه «العربية» من تحديات راهنة؟ وهل ثمة تصارع بينها وبين اللغات الأخرى؟
- أهم التحديات التى تواجهها اللغة العربية هى سيطرة اللغة الواحدة، وجاذبية اللغة الإنجليزية تنبع من أنها لغة القوى، وهناك دائماً ترابط بين قوة اللغة وقوة صاحبها، فعندما يقوى صاحب اللغة تقوى اللغة، والعكس بالعكس، واللغة العربية اليوم تعيش فى حالة ضعف صاحبها، ولذلك أصبحت لغة ضعيفة، والنظرة إليها نظرة مستهجنة، وللأسف هناك فى عدد من المدارس يقولون إنه إذا فشل أحد الطلاب يتم تحويله إلى القسم العربى، على اعتبار أن الدارسين بالعربية هم الفاشلون، على الرغم من أن علماء التربية يقولون إن الإنسان لا يفكر إلا بلغته الأم، فالتفكير شىء والنطق شىء آخر، نحن حالياً لدينا أجيال تتكلم باللغة الإنجليزية لكنها ليس بالضرورة تفكر بها، ولدينا أجيال تتكلم باللغة العربية لكنها لا تفكر بها، وهناك علاقة طردية بين الفكر واللغة، فاللغة قد تكون أداةً وقد تكون مجالاً للتفكير، فإذا خلعنا ابن العربية من لغته الأم ووضعناه فى اللغة الإنجليزية، ليدرس العلوم والرياضيات والتاريخ وغيرها من المواد الدراسية بلغة أجنبية، فهو لن يفكر بها، لأنه يقوم بعملية مزدوجة، إذ يذهب بالفكرة إلى لغته العربية الأم ثم يحاول أن يركبها بالإنجليزية، وبالتالى يصبح الطالب مُشتتاً، لذلك فإن كثيراً من الطلاب يفشلون فى التفكير.
ماذا عن تدريس اللغة العربية فى المدارس؟
- نحن حالياً نعانى مأساة اسمها ازدواجية التعليم، والتعليم بأكثر من لغة، هناك فصام وشرخ بين اللغة والتفكير، إذ ينطق الطالب العربية لكنك لا تدع له من المساحة ما يكفى للتفكير بها، لذا أرى أن من أخطر الكوارث التى تعرضت لها الأجيال الجديدة هى المدارس الأجنبية، لأن هذه المدارس جعلتنا مثل الديك الذى أراد أن يُقلد الطاووس، فلم يصبح طاووساً ولم يعد ديكاً كما كان، وهو ما أدى إلى ضعف قدرة الأجيال الجديدة على الإبداع، فالطلاب فى مراحل التعليم المختلفة ليست لديهم القدرة على الإبانة عما فى أنفسهم، كلامهم مقطوع غير مستقيم، فاللغة انعكاس للفكر. أنا أفرق بين أمرين، بين أن نتعلم اللغات وهو أمر مهم، وبين أن نتعلم باللغات، لا توجد مشكلة فى تعلم الشىء، المشكلة فى التعلم بالشىء.
من أخطر الكوارث التى تعرضت لها الأجيال الجديدة المدارس الأجنبية لأنها جعلتنا مثل «الديك الذى أراد تقليد الطاووس»
ألا تواجه «العربية» أى تحدٍ آخر؟
- التحدى الآخر الذى يواجه العربية، هو تحدى «العاميات»، على الرغم من أننى أراها فى تقديرى الخاص ظاهرة طبيعية، فالعامية ليست مبتورة الصلة عن الفصحى، وهى ظاهرة تاريخية أيضاً، فلا توجد لغة بدون عامية، ففى الجاهلية وصدر الإسلام، كانت هناك لغة قُريش لغة الأدب والمجالس والشعر، وكانت هناك لغات للقبائل، وهناك اليوم اللهجات السورية والمصرية والعراقية والسعودية وغيرها الكثير، بل وتتعدد اللهجات داخل البلد الواحد أيضاً، وهذا كله لا مشكلة فيه بشرط أن يكون هناك وعى عام بلغة واحدة جامعة للتفكير، فهناك ما يسمى بحرم اللغة، وحرم العربية يتمثل فى ألا أكتب إلا بها، ولا أتحدث فى مكان عام عن فكرة ذات قيمة إلا بها، وكذلك فى الإعلام والتعليم.
ونحن كعرب نمتلك كل مقومات الوحدة، وأهمها وحدة اللغة، لكننا مُصرون على أن ننخلع من هذه اللغة، فمن المفارقات المبكية أن أحمد لطفى السيد، الذى كان يشغل منصب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، كان من الداعين للكتابة بالعامية والحرف اللاتينى، هذه مصيبة الانبهار بالآخر، اللغة لها مظهران، النطق والكتابة، والحرب على العربية اشتمل على الجانبين.
على ذكر الأندلس.. ثمة من حذر من موت العربية خلال قرن من الزمان مبرهناً على أن هذه اللغة سبق أن ماتت فى الأندلس؟
- صحيح أن اللغات تموت، أو كما يحدث مع اللغة العربية من موت بعض خلاياها، فكثير من ألفاظها وقوالبها لم تعد مستخدمة اليوم، صحيح أن العربية ماتت فى الأندلس، لكن بموت أصحابها، وحُظر الكلام بها بين المسلمين الإسبان آنذاك، لكن العربية بنص القرآن محفوظة لقوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، ولا أظن أنها ستموت لارتباطها بدين واسع الانتشار بين 30% تقريباً من سكان العالم، لكنها ستنحسر، وعلى العرب أن يعلموا أنهم إذا ما أرادوا بناء حضارة فعليهم بالتمكن من لغتهم.
هل تعتقد أن هناك من يتآمر على لغة العرب؟
- لا شك فى ذلك، المفكر الأمريكى صموئيل هنتنجتون، صاحب كتاب صراع الحضارات، قال فيه إن هناك حصنين، لكى نتخلص من الإسلام، هما اللغة العربية والدين، فإذا ما أردت أن تسيطر على إنسان، عليك بهدم دينه ولغته، وأطروحة «هنتنجتون» معروفة فى أوساط المثقفين، وهى ليست سراً، فهناك تآمر على اللغة ما فى شك، انظر إلى الحرص الغربى على نشر لغاته مجاناً، قد تكون لهم أغراض أخرى من بينها إزاحة العربية، فالتآمر موجود، لكن أخطر أشكاله هو غياب وعى الناطقين بالعربية وضعفهم اللغوى، لذا فإن التمكين للعربية أمر ضرورى، وهذا التمكين يكون عبر قرار سياسى فى المقام الأول.