جمال غيطاس يحلل: خطاب العيون الزائغة والحلق الجاف
انهيار المنهجية وسيادة اللامنطق
كما سبقت الإشارة انخفضت عدد كلمات الرئيس فى هذا الخطاب إلى 3319 كلمة مقارنة بأكثر من عشرة آلاف كلمة فى خطابه السابق، وبتحليل مضمون الخطاب بدا من الوهلة الأولى أن الرئيس فى خطابه الثانى فقد القدرة تماما على تقديم خطاب له منهجية واضحة، تتسلسل فيها الأفكار وتنساب عبر ترتيب منطقى يليق بمقام رئيس يخاطب شعبه.
فقد أشار التحليل الذى قدمته الوطن لمضمون الخطاب الأول إلى أن الخطاب حافظ على قدر من البنية المنهجية، فقد بدأ بتقديم تمهيد شكل 7% من الخطاب، ثم تحليل وتشخيص للموقف استغرق 68% من الخطاب، ثم مجموعة من القرارات استغرقت 3% من الخطاب ، ثم نهاية للخطاب شكلت 22%، وكان 55% من الخطاب مكتوبا و45% مرتجلا.
فى الخطاب الثانى انهارت البنية المنهجية تماما، فقد كان الخطاب برمته مرتجلا، وكشف تحليل المضمون عن سيادة اللامنهج فى الخطاب، والقفز من فكرة لأخرى، ثم العودة مرارا للأفكار التى سبق تناولها بصورة غير منتظمة وغير مبررة، ومن ثم خلا الخطاب من أى تسلسل منطقى للأفكار وفق ما هو متوقع أو مفترض فى خطابات الزعماء ورؤساء الدول، ويعرض الجدول رقم "1" تسلسل الافكار بحسب ورودها فى خطاب الرئيس، ويلاحظ فيه عدم الانتظام وعدم التريتب وظهور الفكرة أكثر من مرة، بلا بنية منهجية محددة للبداية والجسم الاساسى والنهاية،
من الرئيس المندهش إلى الرئيس العصبى
أوردت الوطن فى تحليلها لمضمون الخطاب السابق أن اكثر الكلمات التى كررها الرئيس فى خطابه هى كلمة "ليه"، وكان يعبر بها عن تساؤلاته واندهاشه لما يرى أنه يستحق التساؤل والاندهاش، وقد كرر هذه الكلمة 46 مرة، ثم جاءت بعدها كلمة النظام السابق وما يتصل بها من مفردات كالنظام البائد والمجرم وغيرها، وهذه تكررت 37 مرة، ثم الثورة كررها 24 مرة، والاعلام 8 مرات والثوار 7 مرات والشباب 6 مرات والمعارضة 5 مرات والقائد الاعلى للقوات المسلحة 3 مرات، وتتسق هذه التكراريات مع السياق العام للخطاب وتوجهاته الهجومية.
فى الخطاب الأخير ـ كما يوضح الجدول رقم "2" ـ أختلف الامر كلية، حيث كانت أكثر كلمة كررها الرئيس فى خطابه هى الشرعية، حيث ذكرها 58 مرة، وفى بعض المرات كان ينطقها وهو يدق على الطاولة وترتفع نبرة صوته كثيرا، ثم كلما "أنا" وكررها 37 مرة، ثم الدستور 33 مرة، والدم والدماء 14 مرة والقانون 14 مرة والديمقراطية 12 مرة ، والمعارضة 12 مرة، والنظام السابق 8 مرات والنظام السابق 8 مرات، وكلمو "اوعو" او لا تفعلوا وكان يخاطب بها انصاره وكررها 6 مرات.
وبالنظر إلى هذه المفردات مجتمعة/ ومعدلات تكرارها العالية نسبيا، وورودها فى سياق خال من المنهجية وقائم على الارتجال والقفز من الفكرة والعودة إليها مرة اخرى، نخلص من ذلك إلى أن الرئيس انتقل خلال اسبوع واحد فقد من حالة الاندهاش القائمة على السخرية والثقة من المعارضين، إلى حالة من العصبية الواضحة، التى جعلته يظهر متوترا مضطربا.
وهنا كان الخطاب متوافقا إلى حد كبير مع الحالة النفسية والعصبية ولغة الجسد التى صاحبت إلقاء الخطاب وكان من بينها:
• كثرة الحركة وعدم الاستقار فى المكان وهو ما يدل على التوتر وقمة الانفعال.
• تبليل شفتيه باستمرار
• التشويح بيده غضبا وهو لم يفعله فى الخطاب السابق، وهذا معناه أنه يفعل آخر ما يستطيع فعله لأن صبره قد نفد.
• الدق على المنصة أمامه مما يوضح وصوله إلى نقطة الاشتباك باليد، والعجز عن الحوار والكلام بالمنطق.
• استخدام نبرة صوت عالية مهددة، مما يدل على ضعف موقفه وتأزمه.
وهذه الظواهر جميعها لم تكن ظاهرة فى الخطاب السابق.
انهيار معلوماتى
لم يكن انهيار المنهجية هو الأمر الوحيد فى هذا الخطاب، فقد صاحبة انهيار معلوماتى واضح إن صح التعبير، فكما يوضح الجدول رقم "3" لم يأت الرئيس سوى بـ 11 معلومة فقط، تسع معلومات منها جاءت من تلقاء نفسها فى إطار حديثه عن المبادرة التى عرضتها عليه بعض الاحزاب كحل للازمة، ومعلومة استخدمها فى حديثه عن ضرورة تمسكه بالشرعية ثم كررها عدة مرات، ومعلومة أخرى وهو يهاجم المعارضة، وفيما عدا ذلك جاء حديثه خاليا من المعلومات، وربما يرجع هذا الانهيار إلى أن الرئيس قدم خطابا مرتجلا بالكامل.
هجوم ثلاثى
لم يتخل الرئيس عن عادته فى الهجوم على بعض الاطراف، واستمر ـ كما فعل فى الخطاب السابق ـ يهاجم بدرجة اكبر من العنف، وكان الهجوم هذه المرة ثلاثيا كما يوضح الجدول رقم "4"، أى وجه هجماته إلى ثلاث جهات هى بقايا النظام البائد أو السابق وهاجمه خمس مرات استخدم فيها 338 كلمة، والمعارضة والمظاهرات ثلاث هجمات استخدم فيها 188 كلمة، والجيش بصورة مبطنة غير مباشرة اربع مرات واستخدم فيها 340 كلمة، ويكشف الهجوم بهذه الصورة أن الرئيس ألقى بالقفاز فى وجه الجميع وقرر خوض معركته والمواجهة حتى النهاية، لأن الاطراف الثلاثة تكاد تكون هى الأطراف الممسكة باطراف الأزمة
من رحابة 45 قضية إلى زنقة 8
اتسم الخطاب السابق للرئيس قبل أسبوع بغزارة وتنوع القضايا التى تناولها، فقد كان المجال واسعا ويكاد يكون بلا ضفاف أمام الرئيس ليسهب فى التفاصيل ويسرد الحكايات بل ويسوق الجمل الساخرة الاقرب إلى النكات، حتى بلغت جملة ما تناوله من قضايا 45 قضية، بعضها خص بها نفسه ونجاحاته واخفاقاته.
بعد اسبوع فقط فقد الرئيس هذه الرحابة ووجد نفسه محشورا ـ وربما مزنوقا بتعبيره الشهير ـ فى دائرة ضيقة من القضايا بلغت ثمانية قضايا فقط، فكما يوضح الجدول رقم "5" تحدث الرئيس عن المبادرة التى وصلته لحل الازمة، والنظام البائد، ثم اسهب فى الحديث عن التشبث بالسلطة باسم الشرعية، ثم تقديم رفض مبطن لبيان القوات المسلحة ثم المزايدة على الثورة وعرض جانب من مسئولياته والتزاماته، ثم مهاجمة المعارضة وعرض عام لنتائج ثورة 25 يناير، هذا فضلا عن جزء انشائى من الخطاب لا يحمل أية قضايا
بتحليل مضمون هذه القضايا الثمانية والكيفية التى تحدث بها الرئيس تم الوصول إلى أن الخطاب يعكس السمات التالية:
ـ انتقل الرئيس من من التحفز والهجوم إلى الدفاع العشوائى.
،ـ ومن المبادرة بالحدة عند الحديث إلى الآخرين إلى الاضطرار إلى الرد بالعنف
ـ ومن الترتيب المنظم قدرا ما للأفكار الى التهييج والمزايدة
ـ ومن مناقشة القضايا بقدر من الثبات إلى تناولها بخفة وعصبية.
ـ ومن الارتياح والثقة عند عن السلطة إلى الاضطرار للحديث عن التشبث بالسلطة
اختلاف وتشابه مع مبارك
يعيد هذا الخطاب إلى الأذهان الخطاب الذى القاه مبارك فى يوم جمعة الغضب 28 يناير، وبمقارنة سريعة لمضمون الخطابين أمكن التوصل إلى بعض الملاحظات السريعة، حيث بدا مرسى متوافقا مع مبارك فى عدة نقاط، منها أن كلاهما اكد على قبوله وقناعته بان التعبير عن الرأى مكفول في حدود الشرعية التى كفلها الدستور والقانون، وأن تحقيق المطالب يكون بالحوار والتفاهم في إطار الشرعية، لكن مبارك لم يسهب كثيرا في التركيز الشرعية مثلما فعل مرسى، كما اتفق الاثنان في ان الابتعاد عن الشرعية يعرض البلاد لأزمة وصفها مبارك "بالمنزلق الخطير" واطلق عليها مرسى عدة أوصاف كالنفق المسدود والمجهول والضباب وغيرها.
اتفق مرسى مع مبارك أيضا في مخاطبة الشعب بكونه مواطن مصرى ليس حريص على كرسى الرئاسة ولكن حريص على الشرعية، وأنه حريص على تحمل المسئولية التى حملها له الوطن، ولم يختلف مرسى عن مبارك في تقديمه الغزل المباشر والصريح للشباب وضرورة اشراكهم في تحمل المسئولية،
اما الاختلاف بين خطاب مرسى ومبارك فجاء في نقطتين، الأولى طول زمن الخطاب، ففى حين استغرق خطاب مبارك 12 دقيقة في حين استغرق خطاب مرسى 46 دقيقة، ومن حيث التزامن والتجاوب مع الاحداث جاء خطاب مبارك في نفس يوم مظاهرات جمعة الغضب، لكن خطاب مرسى جاء بعد ثلاثة أيام من مظاهرات يونيو، وكانت نقطة الاختلاف الأخرى أن مبارك اعلن في خطابه عن تغيير الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، أما مرسى فأعلن قبوله بمبدأ تغيير الحكومة عبر المبادرة المطروحة عليه لكنه لم يتخذ قرارا بإقالتها وتغييرها.