محمود خليل يكتب: 8 أعوام فى بيت العنبكوت (الحلقة الثانية)
المرحلة العمرية التى تقع بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة هى المرحلة الأطوع للوقوع فى حبائل عنكبوت الإخوان. وفى تقديرى أن من لم يمر على الجماعة خلال هذه المرحلة يصعب أن يكون من بين كوادرها فيما بعد، ويكون وقوع الفرد بين خيوط العنكبوت أسهل إذا ألقت به الظروف فى بيئة تتنفس الدين فى كل أقوالها، وتسكن معالمه وأدواته كل زاوية من زواياها وكل ركن من أركانها. وقد التحقت بالمرحلة الثانوية فى عام 1978، فى ظل مناخ كان الدين فيه يعد الشاغل والهاجس الأساسى الذى يحيط بى من كل اتجاه. فرئيس الدولة يوصف بـ«المؤمن»، وكأن الرؤساء السابقين لم يكونوا كذلك. والكلام عن الإخوان لا يتوقف، سواء بالمدح أو بالقدح، وكان هناك أيضاً ما أقرأه وأتابعه عن هؤلاء الذين قرروا حمل السلاح من أجل الدفاع عن أفكارهم ومعاقبة من يختلفون معهم فى الرأى. وأسهم أيضاً فى انشغالى بالموضوع مولدى ونشأتى بحى السيدة زينب، ذلك الحى الذى تعد المساجد أكثر المعالم المميزة لشخصيته، فبين كل مسجد ومسجد تصادف مسجداً، كما كنا نتندر وقتها. وفى ظل ظروف النشأة وزحمة البيوت كان المسجد يمثل بالنسبة لأغلب أترابى بـ«السيدة زينب» ملاذاً فسيحاً، يمنحنا مساحة أكبر للتنفس والنجاة من ضيق البيوت، ويوفر لنا فى غير ساعات الصلاة مناخاً هادئاً للمذاكرة. كان المسجد بالنسبة لى ولغيرى هو القبلة التى يمكن أن نجد فيها الإجابة عمّا يشغلنا من مسائل غامضة تتعلق بالدين، ونعثر فيها على حل لكثير من المشكلات التى نعانيها فى دنيا الفقر التى لا أستطيع أن أنسى جمالياتها الخاصة التى قد تفوق فى إبهارها جماليات الغنى والثراء![FirstQuote]
إذن لم يكن جُلنا مدفوعاً فى الذهاب إلى المسجد بهاجس البحث عن الدين أو الرغبة فى التدين وفقط، بل كان يسوقنا إلى ذلك أيضاً ظروف الضيق وشظف العيش داخل المنازل والرغبة فى المذاكرة بحثاً عن التفوق الذى كان يمثل بالنسبة لنا معراج الصعود إلى أعلى: اقتصادياً واجتماعياً. وقد كان موضوع المذاكرة فى المسجد أمراً معتاداً بالنسبة للكثيرين من أبناء حى «السيدة»، سواء اتخذ الطالب مسجد «السيدة زينب» نفسه قبلة لتحقيق هذا الهدف، أو استعان بأحد المساجد القريبة من منزله، وما أكثرها. وهناك يتلقفك الباحثون عن أتباع أو مريدين ممن يرون أن التدين الحقيقى لا يكتمل إلا بالوجود داخل جماعة تستطيع أن تنهض بمهمة تحقيق أهدافهم، التى يتصدرها باستمرار عنوان «خدمة الدين». والمسجد بطبيعته يضعك فى المناخ والسياق اللذين يجعلانك ألين فى قبول الأفكار الدينية، الطقس العام به يفرض عليك ذلك!
يوم العهد
فى مسجد «أزبك»، الكائن بشارع «أزبك» -نسبة إلى المسجد- الذى يتفرع من ميدان الخضيرى، تعرفت أنا وصديق طفولتى «م. ع» على من كنا نلقبه بـ«الشيخ مصطفى»، لم يكن شيخاً بالعمر، لكن هكذا كنا نتنادى جميعاً فى المسجد بلقب «شيخ»، حتى لو كان المنادَى مراهقاً خرج لتوّه من سنوات الطفولة. كان الشيخ «مصطفى» يسكن الحارة نفسها التى نعيش فيها، وكان أول من فتح لنا بوابة الدخول إلى عالَم «الدين»، ولكن من منظور صوفى.. كثيراً ما كنا نلتقيه فى بيته، وكان أكثر ما يجعلنى حريصاً على حضور هذه اللقاءات الأغانى التى كان يسمعها لنا، أذكر جيداً أننى استمعت إلى شريط الكاسيت الذى يضم أغانى «رابعة العدوية» لـ«أم كلثوم» عنده، وكانت تلك من المرات الأولى التى يصافح فيها صوت «أم كلثوم» سمعى. كان الشيخ مصطفى كثير الحديث عن رابعة العدوية، العابدة الزاهدة، ويسمعنا من شعرها الكثير.
أذكر أننى سمعت منه لأول مرة شعر «رابعة» الذى تقول فيه: «فليتك تحلو والحياة مريرة.. وليتك ترضى والأنام غضاب»، استخفنى الطرب بالشعر وبالغناء، لكنه لم يستخف صديقى «م. ع». جعل الشيخ «مصطفى» إعجابى بأغانى «رابعة» وعدم تبرم صديقى منها مدخلاً للحديث عن الصوفية. فأنشأ يقول لنا: إن المسلم الحق هو المسلم المتصوف، وإن المتصوف الحق لا بد أن يكون له شيخ، وإن الرباط بين المريد وشيخه هو العهد. وبوابة المريد إلى الإسلام الصوفى هى الذكر. وأعلى الذكر ذكر الله، وطقسه أن نغمض أعيننا ونردد: «الله.. الله.. الله»»، وهكذا حتى تفيض أعيننا من الدمع، أخذنا نغمض أعيننا ونذكر: «الله.. الله.. الله»، لكن العين لا تدمع! بدأ الشيخ مصطفى يحرضنا على جمع المزيد من الأتباع من أصحابنا، وقد فعلنا، وما إن يفد وافد جديد حتى يدخل الاختبار (ذكر الله حتى البكاء)، كان البعض يبكى والأكثر يفشل، وقد اكتشفنا بعد ذلك أن مَن أجهشوا بالبكاء كانوا يمثِّلون؛ لأننى فوجئت ذات يوم ببعض الرفاق يذكرون الأمر ويكشفون أنهم تصنعوا البكاء، فغرقنا جميعاً فى الضحك، ويومها «فَتَن» أحد الصغار المنضمين إلى الركب مؤخراً بحكاية تمثيل البكاء للشيخ «مصطفى»، توقعت أن يغضب، لكنه فاجأنا بالقول: «فإن لم تبكوا فتباكوا»، ونصحنا عندما يأخذنا إلى الشيخ الذى سوف يعطينا العهد أن نتباكى أمامه، إن لم نستطع البكاء! فلا مانع أن يكون التدين نوعاً من التمثيل! كذلك يفكر «الصوفى»، ومن عجب أن الإخوان لا يرون أيضاً عيباً فى «تمثيل التدين»، وقد قطعوا فى هذا الاتجاه أشواطاً أكبر من «الصوفية»، كما سأوضح.
أفهمنا الشيخ «مصطفى» أن من الضرورى أن نعد العدَّة ونتجهز ليوم «العهد».. سألناه: كيف؟ أجابنا: بكثرة الذكر وتكثيف الأوراد اليومية حتى يتمكن الإيمان من قلوبنا. ودلّنا على الوسيلة التى يمكن أن نضبط بها الأوراد، وهى «سبحة» كبيرة، أذكر أن حباتها تسع وتسعون، اشتريناها من أحد الباعة ممن يفترشون الأرض أمام مسجد «سيدنا الحسين»، وقد حدث وشمّرنا عن ساعد الجد فى الذكر والتسبيح والتهليل، وكان المسجد هو ملاذنا فى أداء الأوراد التى نشطنا فيها، فيما يشبه «السَّبَق»! عندما حان «يوم اللقا»، كما كان يردد الشيخ «مصطفى»، اصطحبنى ومجموعة المريدين إلى مسجد الإمام الحسين، وجدنا فى المسجد مجموعة ضخمة من الرجال يجلسون على الأرض، يتصدرهم شيخ أسمر اللون، حسن القسمات، يرتدى جلباباً أبيض وعمّة بيضاء، وأشار إليه الشيخ «مصطفى» قائلاً لنا: إنه «الشيخ»، هكذا دون اسم، ولا أذكر أننا عرفنا اسمه بعد ذلك، ولكن كان يكفى جداً أن نسمع كلمة «الشيخ» حتى نفهم أنه المقصود، سرنا نحو «الشيخ»، يتقدمنا الشيخ «مصطفى»، وجلس أولنا أمامه وأخذ يذكر، ونحن ننظر إليه وهو يحاول تصنّع الخشوع، ونمسك -قدر ما نستطيع- أنفسنا التى تكاد تنفجر بالضحك، لم يعط الشيخ أحداً فرصة للتصنع، فما إن يبدأ واحد فى الذكر ويقول: «الله.. الله.. الله» حتى يمسح الشيخ على رأسه، ويقول له: قم يا ولد. فيقبِّل المريد يده، كما أمرنا الشيخ «مصطفى».
دقائق وبدأ أحد الجالسين ينشد، والمجموع يردد من ورائه على إيقاع صفقات تدوى من يده.. أذكر الإنشاد جيداً، كنا نقول: «يا اللى قسيت فى الطب.. قصدك تداوينى.. أنا مش عليل بجراح.. ده أنا علّتى فى الحب»، كان طقساً فريداً غرقت فيه حتى الثمالة، وانخرطت مع المجموع فى الترديد، وبينما أنا غارق فى الأنغام العذبة، إذا بالرجال من حولنا يقفزون فجأة، وسط دهشتى ورفاقى؛ إذ ظللنا على وضع الجلوس، فإذا بهم ينغزوننا بأيديهم وأرجلهم كى نقوم، وانخرط المجموع فى نوبة «تفقير»، بدأنا نتمايل معهم وسط ضحكات مكتومة، أحيانا ما كانت تفلت فنعيدها ثانية إلى حالة الاعتقال، حتى فرغنا من ذلك المشوار.
وقد أدركت، بعد انخراطى فى صفوف «الإخوان»، توحد الأساليب وتشابه الطقس بين كل الإسلاميين الباحثين عن لملمة المصريين فى جماعة تخدم أهدافاً خاصة بهم؛ فالمسألة تبدأ بتأليف القلوب، ببعض الأشياء الصغيرة التى تمتع النفس وتخلق طقساً خاصاً يشد المجموع فى رباط واحد، مرة بـ«التفقير الجماعى» ومرة بـ«الهتاف الجماعى» أو بـ«التحميد والتكبير الجماعى» لتبدأ فى «الذوبان فى القطيع»، والأخطر فى هذه الطقوس «فكرة العهد» الذى يجعلك تابعاً لكبير، ويوصف العهد فى «الإخوان» بـ«البيعة»، وإذا كان الصوفى يردد باستمرار أن فى رقبتى عهداً، فما أكثر ما تسمع عضو «الإخوان» يقول: «فى رقبتى بيعة»، وقد تكون النشأة الصوفية لجماعة الإخوان سراً من أسرار هذا التشابه بين طقوس التجنيد وفكرة التبعية للكبير. وفى كل الأحوال تبقى الأهداف مختلفة بين الفصيلين على مستوى المصالح المرجوة والمنافع المتوقعة، ومتوحدة على مستوى ساحة التنافس المتمثلة فى المسجد الذى تحاول كل جماعة أو فصيل إسلامى السيطرة عليه؛ لأنه ببساطة المساحة الكبيرة التى يمكن التقاط الأعضاء منها، وحتى وقت قريب كان هناك نوع من التصالح بين فصيل الإسلام الصوفى وفصائل الإسلام السياسى، على أن تترك الثانية مساجد أهل البيت وأولياء الله الصالحين للصوفية، من منطلق أنها تحرّم الصلاة فى المساجد التى يوجد بها قبور، فى حين يتنازل الفصيل الصوفى عن المساجد الأخرى التى لا توجد فيها قبور «أولياء»؛ لأنها فى نظرهم لا تشكل أعتاباً للتبرك! وتحاول الجماعة الآن التهام جميع المساجد، بعد وصولها إلى الحكم، من خلال ما تسمع عنه من عمليات «أخونة» لـ«الأوقاف».[SecondQuote]
المصريون يحبون الدروشة
كانت أنفاس الصوفية تحيط بنا من كل اتجاه داخل حى السيدة زينب، وكانت هذه الأنفاس تملأ المكان بروائح عجيبة، عندما يحل الموعد السنوى لـ«المولد الزينبى»، كان المولد طقساً سنوياً راسخاً فى عقل ووجدان كل من عاش أو يعيش أو سيكتب الله له الحياة بهذا الحى الذى يمتلك شخصية فريدة بين أحياء القاهرة، إن لم يكن أحياء مصر قاطبة. أيام المولد كانت قرى ونجوع محافظات مصر المختلفة تلفظ أشكالاً وألواناً من فقراء هذا البلد، يأتون من فج عميق من فجاج مصر، رجال ونساء من فلاحى مصر البسطاء، كنت أظن أنهم يأتون للتبرك بالمقام، وما كان أعظم سذاجتى حين ذهب بى الظن هذا المذهب. لم تكن المسألة مجرد تبرك، بل كانت تعبيراً عن أفكار راسخة فى نفوس وعقول هؤلاء الطيبين. ما أكثر ما كنا نهرع إلى خيامهم بغرض اللهو واللعب، وأحياناً بنية السخرية من أفعالهم، خصوصاً عندما ينخرطون فى حفلات الذكر (التفقير)، وهو المشهد الذى خضناه فى مسجد «سيدنا الحسين»، لكن سرعان ما اكتشفت أن هذا الطقس الشكلى، وغيره من الطقوس الأخرى التى كان يأتيها هؤلاء البسطاء، تعبر عن أفكار ومعتقدات تمكنت من عقولهم وقلوبهم.
ذات مرة دخلت فى نقاش مع أحدهم وسألته: أليس «التفقير» حراما؟ فأجابنى: «لا تقل ذلك يا بنى.. إنه ذكر»، فقلت له: «الذكر بالتسبيح أو بالصلاة»، فقال: «بل الذكر أيضاً بالتفقير.. ألم تقرأ قول الله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ).. الصلاة هى القيام والقعود.. وعلى جنوبهم يُقصد بها التفقير!».. هكذا! ليس ذلك وفقط، سألته عن شد الرحال إلى مساجد الأولياء والطواف حول قبورهم، فبرر ذلك بكلام عجيب، أذكر منه أنه قال: «إن ما نفعله هو ببساطة نوع من الحج.. تستطيع أن تقول إنه الحج الذى يتناسب مع ظروف الفقر الذى نعيش فيه.. أنت تعلم أن تكلفة الحج لمكة عالية جدا.. وقد قال النبى: (من زار أهل بيتى فقد زارنى).. يعنى ما نقوم به هو حج، وجزء منه الطواف حول مقام (ستنا السيدة زينب)، حفيدة النبى، صلى الله عليه وسلم»!
ما أكثر ما كانت تشغلنى الأسئلة وتحيرنى، لكن حيرتى بما كنت أستمع إليه من إجابات كانت أعظم، العلة أن كل ما حولنا كان ينطق بلسان واحد هو لسان الدين، بل قل إن كل لسان كان له دين خاص به يسميه «الإسلام»؛ لأن لساناً آخر كان ينفى ذلك عنه، كان صديقى «م. ع» من هؤلاء الممتعضين من الإجابات التى قدمها لنا المتصوفون الذين ألقت بهم الأقدار فى طريقنا، لكنه من حيث كان يشك، كان يبحث عن يقين، فى حين كنت أبحث عن المزيد من الفهم. كان يريد حقيقة يستسلم لها، بينما كنت أريد حقيقة يقتنع بها عقلى. والآن أجدنى شديد العذر لهؤلاء البسطاء، فقد كانت أنفاس الصوفية تلاحقنا فى كل الاتجاهات وعلى جميع المستويات، الخاص منها والعام، والحديث عن بركات الأولياء لا ينقطع مهما كان الموضوع الذى نطرقه أو نتطرق إليه.
أذكر أن «والدتى» كانت تحكى لى أنهم فكروا ذات يوم فى هدم جزء من مسجد «سيدى الخضيرى» -هكذا كما نطقتها بالضبط- ليتم نقل مقامه إلى الداخل قليلاً حتى تتم توسعة الشارع الذى يقبع به المسجد، فجاء «سيدى الخضيرى» فى المنام للمهندس المسئول عن هذه المهمة وطلب منه عدم تنفيذ أوامر الحكومة، لكن المهندس أصر، فكانت النتيجة أن شلّ الله يده! قد تقول إنها قصة تعكس عقل أو رؤية سيدة بسيطة، إذن دعنى أحكِ لك واقعة تتصل بأهم وأكبر رمز دينى فى مصر، وهو شيخ الأزهر، الشيخ عبدالحليم محمود، رحمه الله، فقد حُكى أن الشيخ عبدالحليم محمود، قبيل حرب أكتوبر، رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى المنام يعبر قناة السويس ومعه علماء المسلمين وقواتنا المسلحة، فاستبشر خيرا وأيقن بالنصر، وأخبر الرئيس السادات بتلك البشارة. وقد كان الدكتور فؤاد زكريا -رحمه الله- دائب النقد لهذه القصة. وبمناسبة الحديث عن الرئيس «السادات»، رحمه الله، ربما يعرف الكثيرون أن «السادات» كان وثيق الصلة وشديد الثقة بالسيد «حسن التهامى»، الذى شغل منصب نائب رئيس الوزراء خلال هذه الأيام، ولعب دوراً مهماً فى ترتيب التفاوض مع إسرائيل وإبرام معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، وقد كان «التهامى»، كما يحكى من اقتربوا منه، يتمتع بنزعة «صوفية» لا تخطئها العين. والواضح أنه كلما انتشرت الروح الصوفية فى مجتمع هيأه ذلك لقبول فكرة الإخوان التى تجعل من التصوف «عتبة ولوج» إلى الجماعة، ثم تأخذ العضو إلى دروب أخرى بعد ذلك.[ThirdQuote]
باب الدخول من مسجد الجاولى
مسجد «الجاولى» واحد من مساجد السيدة زينب، وهو مسجد عجيب فى تصميمه وموضعه؛ إذ تم بناؤه على صخرة عالية من صخور «قلعة الكبش»، ولكى تصل إلى باب الدخول إليه كان عليك أن تصعد سلماً عالياً مرهقاً حتى تبلغ المرام. ويقع المسجد فى شارع «مارسينة»، وهو شارع يربط بين ميدان السيدة زينب وميدان الخضيرى، الذى يزينه مسجد أحمد بن طولون. كانت منطقة قلعة الكبش أواخر السبعينات وطيلة عقد الثمانينات من معاقل الإخوان بحى السيدة زينب. وكان مسجد «الجاولى»، بالإضافة إلى مسجد آخر، يسمى مسجد «الرحبة» -إن لم تخُنّى الذاكرة- مركزين لتجمع أفراد الجماعة بهذه المنطقة. وبسبب بنائه على تلك الصخرة الجبلية كان مسجد «الجاولى» ملاذاً لنا حين يهجم حر الصيف؛ فارتفاعه كان يؤدى إلى برودة ورقّة نسائمه، خصوصاً عندما كنا نجلس أمام الشباك الحديدى الذى يطل على شارع «مارسينة». هناك التقينا الدكتور «ص. ف» الذى جنّدنا فى صفوف جماعة الإخوان لتبدأ التجربة. أنا أحدثك الآن من قلب العام 1979، ووقتها كنت طالباً بالصف الثانى الثانوى، وكان صديقى «م. ع» فى الصف الثالث الإعدادى.
«التجنيد» هو اللفظ الذى يُستخدم فى وصف الفعاليات التى تسبق إلحاق العضو الجديد بالجماعة، حتى يصبح أخاً من الإخوان برتبة معينة سوف أشرحها فيما بعد. كان «ص. ف»، الأخ الذى تولى عملية تجنيدنا فى الجماعة، طبيباً تخرج لتوه فى كلية الطب بجامعة الأزهر، وكان يتسم بقدر من الهدوء والاتزان والبساطة فى الحديث عن الدين والقدرة على الإجابة عن الأسئلة التى نطرحها عليه، بدأنا نحدثه عن الشيخ «مصطفى» وتجربتنا معه ومجموعة الأتراب التى دارت فى فلكه. استقبل حديثنا بقدر كبير من الاستيعاب، وامتدح مسألة التسبيح والأوراد وغير ذلك من طقوس علّمنا إياها الشيخ مصطفى، لكنه قال بهدوء إن ما نأتيه هو جزء من الإسلام، وليس كل الإسلام؛ فالإسلام الحقيقى غير ذلك تماماً! عرض علينا الدكتور «ص. ف» أن يعلمنا الإسلام الحقيقى، رحبت بذلك أشد الترحيب، فقد كنت متشوقاً إلى ذلك، ورغبتى فى الفهم كانت تعلو على أى رغبة، لكنه نبهنا إلى أن الخير الذى سوف نصيبه بهذا الفهم يجب ألا يكون مقصوراً علينا، فمن الأوجه ألا نشح به على غيرنا، وأن يعم الخير على مجموعة أصحابنا بالمنطقة التى نسكن فيها، لكنه أجّل ذلك إلى حين عقد عدد من الجلسات معنا نحن الاثنين فقط: أنا وصديقى، ثم بدأنا نتحدث عن المكان الذى يمكن أن ننظم فيه الجلسات، كان من الوارد أن تكون فى مسجد «الجاولى» أو فى أحد المساجد القريبة من موقع سكننا مثل مسجد «أزبك»، أو غيره. كانت المساجد كثيرة جداً من حولنا، لكنه رحب جداً باقتراح قدمه له صديقى «م. ع» بأن تكون الجلسات فى «الزاوية» التى تختبئ بالحارة التى كنا نسكن فيها، رغم أننى كنت لا أرتاح لضيقها وكان يستهوينى المسجد أكثر ببراحه واتساعه.
سمعت كثيراً عبارة «الإسلام الحقيقى»، من كل من صادفته خلال تلك المرحلة، حين كنت أبحث عن ثقب أنفذ منه إلى فهم شىء عن الإسلام، كان كل طرف يقدم إجابته على أنه الإسلام الحقيقى، وأن غيره ينهض فقط بجزء من الإسلام، حتى فصائل الإسلام السياسى يطرح كل منهم رؤيته للإسلام على أنه الإسلام الحقيقى، ويسفه من رؤية غيره، ويعتبر أنها بعيدة أشد البعد عن المفهوم الحقيقى للدين. دعنا نضرب على ذلك مثلاً يتصل بموضوع «الخروج على الحكم». لقد خرج شكرى مصطفى، زعيم «التكفير والهجرة»، يكفّر ويقتل، وأطلق على جماعته «جماعة المسلمين»، وخرج الجهاديون حاملين السلاح ضد الحاكم وقتلوا «السادات»، ثم خرجت جماعة الإخوان المسلمين معلنة نبذ العنف والانخراط فى العمل السياسى، وبدأت تشارك فى الانتخابات البرلمانية والنقابية طيلة حقبة الثمانينات وما تلاها، كانت ترفض الواقع، لكنها كانت تقدم رؤيتها للإسلام على أنه محاولة للإصلاح بالأساليب السياسية، وترك فكرة حمل السلاح ضد الحاكم، ثم خرج علينا السلفيون رافضين فكرة الخروج على الحاكم من الأصل، حتى لو أخذ الأمر شكل التظاهرات أو الاحتجاج بالصوت. ولعلك تذكر مواقف هؤلاء الفرقاء الذين يعملون تحت لافتة «إسلامى» قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير.
أخبار متعلقة
محمود خليل يكتب: 8 أعوام فى بيت العنبكوت (الحلقة الأولى)