«الوطن» تنشر أحدث كتاب أمريكى يقرأ لغة الانفعالات التى تحكم الساحة الدولية.. «دبلوماسية العواطف»
«الوطن» تنشر أحدث كتاب أمريكى يقرأ لغة الانفعالات التى تحكم الساحة الدولية.. «دبلوماسية العواطف»
أوباما وأولاند وأردوغان وبوتين
قد يبدو الأمر وكأن السياسة كانت دائماً لعبة وقحة، لكن لها قواعد وأصول. لعبة لا يقدر عليها إلا أصحاب الوجوه المكشوفة والمشاعر المتبلدة والجلد السميك، أو القادرون على ارتداء أقنعة تحمل هذه الصفات عند اللزوم. يزداد الأمر حدة عندما يتعلق بالعلاقات الدولية، والسياسات التى تحكم التوازنات بين الدول، تلك التى تحتاج فى المعتاد إلى نفَس هادئ وبال طويل، وأحياناً إلى قوة تحمّل كتلك التى يمتلكها أبطال الأساطير فى مواجهة «خرافات» أو تخريف الدول الأخرى. كان العالم معتاداً على أن يرى قادته رجالاً فوق البشر، أو يحاولون الظهور بتلك الصورة على الأقل. كأنهم رجال مصنوعون من طينة أخرى، لا يشعرون كما يشعر باقى الناس، ولا يعانون من ذلك الضعف العام الذى يعانى منه الجنس البشرى، والذى يحمل اسم: «الإحساس»!
غضب بوتين من تركيا وجنون أردوغان مع سقوط الإخوان ليس صدفة.. والرئيس يلجأ لـ«دبلوماسية الغضب» للحفاظ على مصالح الدولة العليا
هم رجال الواقع والمنطق والمصالح العليا والأجندات الخفية والمعلنة. أما المشاعر والانفعالات فهى ترف لا يملكه رجل السياسة ساعة الجد. ربما كان ذلك صحيحاً فى زمن مضى، كانت الكلمة العليا فيه لقواعد متعارف عليها أو معلنة، أما اليوم، فلم يعد أحد يفهم شيئاً، ولم يعد أحد قادراً على التنبؤ بأى شىء. ارتبكت حسابات الدول والأفراد، صار العالم يشتعل فى لحظة وتنقلب أحواله فى ثوانٍ. لم تعد «التقاليد» والقواعد هى اسم اللعبة فى عالم لا تعرف فيه الحليف من العدو، ولا تعرف فيه من أين يمكن أن تأتيك الضربات. صار عالم اليوم متقلباً، متغيراً، لا تستقر حساباته على الورق أكثر من ثبات مشاهد الأخبار على الشاشات. كان من الضرورى، أمام هذا التغير فى عالم اليوم، أن يصحبه تغير فى لغة المصالح التى تعبر عنه. كان من الضرورى، أن يجد أهل السياسة القائمون عليه، والمشاركون فى الفوضى التى تحدث فيه، أن يتفقوا فيما بينهم على لغة جديدة، يتعلمون أصولها وقواعدها وأساليب التفاهم والتعامل بها، بشكل قادر على أن يحتوى انقلابات العالم والجنون الذى يضرب كل جزء فيه.
قادة الدول أدركوا أهمية أن يُظهروا أنفسهم أحياناً كـ«مجانين» حتى تؤخذ تهديداتهم على محمل الجد
هل هناك لغة أفضل، إذن، من لغة العواطف والمشاعر والانفعالات؟
نحن، المشاهدين حول العالم، لم نعد نرى إلا رؤساء وقادة دول من نوع جديد، لا يخجلون من إظهار عواطفهم وانفعالاتهم، لا يترددون فى إظهار غضبهم، أو أن تدمع أعينهم تأثراً أمام الكاميرات. نحن نستقبل ببراءة مشاعر وعواطف رجال ورؤساء الدول ونتفاعل معها سواء بالإيجاب أو بالسلب، لكننا لا ندرك، مثلاً، أن وراء لهجة التهديد والغضب، التى يتحدث بها الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» بعد إسقاط طائرة روسية على يد الأتراك، أو «جَوّ» الخبل والجنون الذى اعتمده الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» فى كلامه بعد سقوط «إخوانه» فى مصر، أو المواقف التى يبدى فيها قادة العالم تأثرهم وتعاطفهم مع دولة أخرى تعرضت لهجوم إرهابى بشع، وحتى الأوقات التى يُظهر فيها رئيس دولة تعاطفه مع أسرة ذُبح أحد أفرادها على يد قتلة «داعش»، تكمن هناك سياسة كاملة يتم تنسيقها وترتيبها على أعلى المستويات، وتحمل اسم «دبلوماسية العواطف».
هى استراتيجية جديدة فى سياسة عالم اليوم، ترى أنه لا يمكن التعامل مع المتغيرات التى لا يمكن التنبؤ بها الآن إلا باستخدام لغة لا يمكن التنبؤ بها بدورها، وهى لغة العواطف والانفعالات. تضفى هذه الاستراتيجية على الدولة وجهاً إنسانياً، حتى تمنحها حرية التحرك وتغير المواقف باسم المشاعر الإنسانية التى يمكن أن تمتلك منطقها الخاص بعيداً عن القواعد والعقل. هذه اللغة، كانت هى محور كتاب أمريكى جديد حمل اسمها: «دبلوماسية العواطف.. العاطفة الرسمية على الساحة الدولية»، للمؤلف «تود هول».
يبدأ الكتاب بالقول إن «دبلوماسية العواطف» تظهر كخيار استراتيجى، وليس انفعالياً، عندما يريد قادة دولة ما أن يغيروا موقفاً بعينه، أو يُحدِثوا تغييراً فى علاقة دولتهم بغيرها من الدول، أو يقدموا أمام العالم صورة مختلفة لها دون المرور بالقواعد المتعارف عليها فى عالم الدبلوماسية والسياسة والعلاقات فيما بين الدول وبعضها. أى إنها أصبحت أداة لا يمكن تجاهلها فى مجال السياسة الدولية والعلاقات الخارجية لكل دولة، ويمكن أن تعد أيضاً أساساً تتخذ الدولة بناءً عليه قرارها بالدخول فى مواجهات عسكرية، أو التدخل من أجل تقديم مساعدات إنسانية أو القيام بتغيرات مفاجئة فى الخريطة الدولية لم يكن يحسب حسابها أحد لو أنه التزم بالعقل والمنطق فقط.
غضب الدولة المنظم والرسمى يختلف تماماً عن التصريحات النارية والعشوائية التى يدلى بها مسئول هنا أو هناك.. و«الدولة الغاضبة» تأخذ فى حسبانها استمرار «المغضوب عليهم» فى التصعيد ضدها
ويتابع: «هى تستخدم لغة العواطف، ومنطقها الذى لا منطق له، لكى تفتح مجالات جديدة غير متعارف عليها، ولا يمكن التنبؤ بمسارها، استجابة للمتغيرات التى لا يمكن توقعها فى عالم اليوم. ويمكن القول إن هناك ثلاث عواطف أساسية تلعب الدول اليوم على أوتارها لتوصيل رسائل معينة للأطراف الدولية الأخرى. هذه العواطف هى الغضب، والتعاطف، والإحساس بالندم أو الذنب. كلها عواطف يمكن اعتبارها ردود فعل على مواقف سلبية تواجهها دولة ما مثل تعرضها لانتهاك مصالحها أو قيمها، أو رؤيتها لمعاناة شعب دولة أخرى، أو أن تتسبب هى نفسها فى إيذاء مصالح وقيم الآخرين بشكل قد يتسبب فى نشوب الصراعات والحروب.
تلجأ الدول لهذه الأساليب كلها فى أنها تسعى لتوظيف المشاعر العاطفية لتحقيق أغراض وأهداف سياسية، وتقديم صورة معينة للدولة أمام العالم بشكل خارج عن الطرق والأساليب التقليدية. تظهر الدولة «عواطفها» عندما تريد أن تغير الصورة التى تنظر بها الشعوب والدول الأخرى إلى نواياها السياسية الحقيقية، أو حتى لكى «تقلب» مسار العلاقات المعتاد والمألوف بينها وبين غيرها من الدول. أى إن الدولة تستخدم لغة العواطف عندما ترى أن تفتح مجالاً جديداً فى التعامل بينها وبين دول أخرى، لم يكن من الممكن توقعه أو فتحه بناءً على الظروف القائمة فعلياً فى عالم الواقع.
التعبير عن الغضب دون أن يصاحب ذلك فعل تأديب على الأرض.. يفقده حدته وتأثيره
ويضيف: «لقد بدأت الدول تعتمد أكثر فأكثر على لغة العواطف فى علاقاتها الخارجية، عندما بدأ القائمون عليها يدركون أنه فى عالم اليوم لم يعد من الممكن أن ينفصل رجل السياسة عن مشاعره وانفعالاته الإنسانية، وأنه من المستحيل رسم سياسات مفصولة عن مشاعر الناس وآمالهم وآلامهم. صار من الضرورى والأساسى لرجل السياسة أو الدولة اليوم أن يكون قادراً على أن يتواصل مع مشاعر الناس، وأن يتفهم عواطفهم وانفعالاتهم، ثم يملك القدرة على التعبير عن مشاعر دولته ككل، وعن ردود فعلها التى لا يمكن أن تخلو من الانفعالات الإنسانية التى تموج بها نفوس أهلها عند تعرض بلادهم أو بلاد أخرى لموقف ما. قد لا يحتاج رجل الدولة حتى إلى أن يشعر بنفس مشاعر شعبه بشكل شخصى، لأن المطلوب منه هو أن يعبر عن غضب أو تعاطف من يحكمهم وينطق باسمهم».
ويواصل الكتاب: أصبحت «دبلوماسية العواطف» أسلوباً سياسياً معترفاً به، قائماً على تصرفات يتم تنسيقها على كل المستويات الرسمية فى الدولة، لكى تنقل صورة عاطفية معينة تجاه دولة أخرى، سواء بالتعاطف أو الغضب أو الصداقة أو الود أو الاستعداد للتأديب. تختلف هذه العواطف «الرسمية» التى يظهرها المسئولون فى الدولة تماماً عن المشاعر الشخصية التى يمكن أن يحس بها كل واحد فيهم كشخص. هذه العواطف الرسمية هى أمر يعبر عنه المسئولون فى الدولة بشكل جماعى، كما لو أنهم أعضاء فى أوركسترا موسيقية يعزفون مقطوعة معينة، ويقوم كل واحد فيهم بعزف آلته بطريقته لكى تنقل الدولة بكاملها صورة منسقة بشكل جماعى وتام، بداية من رئيس الدولة، مروراً بكبار المسئولين فيها، وحتى المسئولين الأقل أهمية، كلهم ينسقون جهودهم معاً لكى ينقلوا نفس الشعور الرسمى كل بطريقته ومستواه ومنطقة عمله، مستخدماً لغته الخاصة، وتعبيراته الجسدية الشخصية. أى إن «دبلوماسية العواطف» بطبيعتها هى أمر جماعى يتم التخطيط له دون أى ارتجال.
ويضيف: والواقع أن اللجوء لاستخدام لغة العواطف التى لا يحكمها عقل ولا منطق فى عالم اليوم قد صار أمراً لا يخلو من المنافع. لقد أدرك كثير من رجال السياسة أنه من المفيد جداً أن يتصور العالم أنهم مجانين لا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم ولا يوجد سقف لما يمكن أن يفعلوه، لأن هذا يجعلهم مرهوبى الجانب، تأخذ الأطراف الدولية الأخرى تهديداتهم على محمل الجد. إن رجل الدولة الذى يعتمد على لغة العواطف فى تعاملاته مع العالم، ينقل له رسالة واضحة بأن «الانفعال» قد أصبح هو سيد الموقف، وأن الحسابات والقواعد السياسية المتعارف عليها قد تم تعليق العمل بها مؤقتاً.
العواطف الرسمية يعبر عنها المسئولون فى الدولة بشكل جماعى مخطط.. كما لو كانوا فى فرقة موسيقية
تظهر أهمية هذه الطريقة بشدة عند اللجوء لاستخدام «دبلوماسية الغضب» بين الدول وبعضها، اليوم، عندما تريد الدولة أن توصل صورة معينة لغيرها من الدول حول ما يمكنها أن تقبله وما لا يمكنها التسامح معه. هى دبلوماسية صالحة للاستخدام عندما تريد الدولة أن ترسم خطوطها الحمراء، وأن تظهر ما هى التصرفات المقبولة بالنسبة لها، وما مدى التزامها بما تتعهد به أمام شعبها أو أمام الآخرين. بعض هذه الخطوط الحمراء تتعلق بمصالح الدولة المباشرة، التى يكون فيها استخدام التفاوض، أو حتى اللجوء للقمع وقهر إرادة الآخرين أمراً مشروعاً. هناك أيضاً خطوط حمراء معنوية أو أدبية فى طبيعتها، تمثل أوتاراً حساسة فى طبيعة أى دولة، وشعبها، وحاكمها الذى لا يمكنه أن يقبل من الناحية النفسية، أى إساءة أو مساساً بها.
عندما يظهر رئيس الدولة، أو أى ممثل رسمى لها، وجه الغضب فى خطاباته الرسمية، فإن ذلك يعنى أنه يوجه لمن يستهدفه بكلامه رسالة بأن الغضب الآن قد أصبح هو سيد الموقف. يؤكد الرئيس بإظهار غضبه أن هناك خرقاً أو انتهاكاً ما قد حدث فى أمر لا يمكن التسامح ولا التساهل معه، وهو ما يفيد، على أدنى تقدير، فى توضيح مدى حساسية أى أمر بالنسبة لدولة ما، لأن عدم إظهار الغضب فى هذه الحالة يعنى القبول الصامت لانتهاك ما.
رجل السياسة اليوم لم يعد قادراً على الانفصال عن مشاعره ولا رسم سياسات تتجاهل آمال الناس
غير أن عملية إظهار الغضب هى مسألة لا تخلو من الخطر بالنسبة لصاحبها، فماذا لو أظهر رئيس دولة ما غضبه، وظل من يستهدفه بكلامه يقف أمامه متحدياً، أو تعمد القيام بمزيد من الاستفزازات ضده؟
حل تلك النقطة يكمن فى أن يكون استخدام دبلوماسية الغضب أمراً محسوباً، يقوم على فكرة اتخاذ إجراءات تصعيدية بشكل تدريجى. يمكن أن يعنى هذا أن تبدأ الدولة الغاضبة باتخاذ إجراءات عقابية ضد من أثار غضبها فى ناحية معينة، أو أن ترد بإظهار تحرك عدوانى مباشر ضده. وبالطبع لا بد أن تضع فى حسابها أن هذا التحرك يعنى تخريب علاقتها مع المغضوب عليهم، وقد يعنى أيضاً الدخول معهم فى صراع صريح.
هذه المخاطر لا يمكن أن تعادل الخطر الأعظم، وهو خطر الصمت على تصعيد التجاوز أو الاستفزاز الذى يقع ضد الدولة. إن إخفاء الغضب أو عدم إظهاره فى هذه الحالة، ينقل إشارة صريحة لا تقبل الجدل عن ضعف الدولة ورئيسها. فلو أن الرئيس أظهر غضبه من تجاوز ما ضد دولته، ثم أصر من يتحداه على مواصلة الاستفزاز ضده، دون أن يرد عليه الرئيس الغاضب بغير الصمت، عندها يكون رئيس الدولة قد كشف بوضوح عن عجزه عن الرد. وهو أمر قد يدفع ثمناً فادحاً له من سمعته الدولية، وأيضاً من حجم التأييد الشعبى الذى يحظى به داخلياً.
تلك المخاطرة تعنى أن رئيس أى دولة لا ينخرط فى سياسة «إظهار الغضب» إلا عندما يرى أن «حتمية» الدفاع عن مصلحة معينة تتجاوز بكثير أهمية الحفاظ على علاقة ما مع المغضوب عليهم، أو الدخول فى صراع معهم، أو أن يتم إجباره على التراجع أمامهم. بعبارة أخرى فإن «دبلوماسية الغضب» تظل دائماً أسلوباً يمكن اللجوء إليه عند حدوث أى انتهاك ضد الدولة، إلا أنها لا تتحول إلى جزء من سياسة الدولة، إلا عندما يقرر رئيسها أن يظهر غضبه على الساحة الدولية.
ومن المعروف هنا بالنسبة للعالم كله أن هناك فارقاً ضخماً بين أن يقوم رئيس أى دولة بإظهار «ردة فعل» غاضبة قوية، قد تنبع منه بشكل شخصى وتلقائى، ويعبر عنها بشكل عشوائى، وسرعان ما تمر مهما بلغت حدتها، وبين «الدولة» عندما تبدأ بإظهار غضبها فى عملية سياسية منظمة، تتجاوز بكثير مجرد تصريحات نارية غاضبة يدلى بها مسئول رسمى فيها هنا أو هناك. عندما تغضب الدولة، تجد أن كل ممثليها الرسميين يعبرون عن موقفها الغاضب بصيغ مختلفة، لكنها تبدو دائماً وكأنها تدور فى إطار نفس السيناريو الأساسى. وهذا أمر لا يحدث تلقائياً أبداً، إذ إن اللجوء لاستخدام دبلوماسية الغضب، ودبلوماسية العواطف بشكل عام، قد تحول إلى جهود منظمة تتم على مستوى كل مؤسسات الدولة لنقل صورة معينة لمن يراها، وما طريقة تعبير المسئولين بشكل شخصى عن غضبهم إلا جزء يضاف إلى باقى عناصر عملية اتخاذ القرار السياسى، بالغضب.
فى أغلب الحالات التى يشهدها العالم حالياً، يغضب بعض المسئولين فى الدولة بشكل شخصى دون أن يؤدى ذلك إلى أن تعلن «الدولة» غضبها على الصعيد العالمى. إن سياسة إظهار الدولة لغضبها على المستوى الدولى يجب ألا تعكس بدورها المشاعر الشخصية لمن يتولون مهمة تمثيلها. ليس الاثنان نفس الشىء، وربما حتى لا يوجد أى رابط بينهما فى معظم الحالات، غضب الدولة من عدمه لا يكون له أحياناً علاقة بما يشعر به رئيسها بشكل شخصى.
لكن، لو قررت دولة ما أن تتبنى سياسة الغضب، فإن هذا يعنى ظهور مجموعة من المؤشرات التى توضح لمن غضبت منه أن هناك انتهاكاً ما قد وقع، وأن مسئولية تصحيح ذلك الوضع تقع على من تسبب فيه. وهنا لا بد أن ننتظر ممن يمثل الدولة، من رئيس ومسئولين، أن يعبروا بشكل شخصى عن غضب دولتهم. هؤلاء الرسل الذين يحملون رسالة «الغضب الرسمى» لا بد أن ينقلوها بكل ما لديهم من أدوات وإمكانيات لفظية ونفسية بما فيها أن يظهروا هم أنفسهم الغضب، فى نبرة أصواتهم، وانعقاد جبينهم، وقبضاتهم المضمومة، وحركاتهم الجسدية الصارمة، وخطاباتهم النارية، وهى كلها مؤشرات تنقل بوضوح أن دولة ما قد بدأت تتبع إجراءات «سياسة الغضب».
ربما تكتفى الدولة عند اتباع هذه الإجراءات بأن يعبر مسئولوها عن غضبها الرسمى بالخطب والتعبيرات النارية، لكن فى حالات أخرى قد يرى ممثلو الدولة أنه من الضرورى أن يدعموا هذا التعبير اللفظى عن الغضب بتحركات أخرى تظهر مدى جديتهم ومدى حدة الموقف. ويندرج تحت ذلك أن يقرر رئيس الدولة الغاضبة أن يتخذ سلسلة من الإجراءات العقابية ضد من تجاوز فى حق دولته، حتى يصل إلى عمليات الاستعراض الصريح والضخم للقوة. قد يبدأ مثلا بوقف التعاون فى مجالات معينة، أو بإغلاق قنوات التعامل والتواصل الرسمية والدبلوماسية مع الطرف الآخر، أو تخريب جهود الدولة الأخرى فى أى مجال، أو فرض عقوبات متنوعة عليها. وترتفع حدة التعبير عن الغضب بمزيد من التحركات الهجومية مثل استعراض القدرات القتالية للدولة فى صورة مناورات عسكرية، خاصة بالقرب من الدولة المغضوب عليها، حتى الوصول إلى حد الصراع المعلن والصريح فى الحالات القصوى.
ما الذى تملكه الدولة التى تواجه غضب دولة أخرى؟
يمكنها بالطبع أن تزيد من تصعيد الموقف بمزيد من أفعال التحدى. أو يمكنها أن تظل صامتة حتى تمر عاصفة الغضب فى سلام، بشرط أن تتجنب فى هذه الحالة كل ما يمكن أن يساء تفسيره على أنه مزيد من التجاهل والاستفزاز.. وأخيراً، يمكنها أن تتخذ خطوات فى اتجاه إصلاح الموقف، كما تريد الدولة الغاضبة، بحيث تصل إلى موقف سريع من التصالح. إلا أنه فى الواقع نادراً ما تلجأ الدولة المستفزة لخيار تهدئة الموقف أو التصالح، لأنها لا تعطى تقديراً ولا أهمية كبيرة لعلاقاتها مع الدولة الغاضبة بل وربما حتى ترحب بالدخول فى صراع معها، كما أنه فى كثير من الحالات، قد ترى الدولة المغضوب عليها أن الدولة الغاضبة ليس لها الحق فى الغضب، وأن هذا الغضب غير المبرر وغير المشروع لا يمكن أن يفرض عليها خطوات لإصلاح ما لا تراه تجاوزاً من ناحيتها.
وأخيراً، فإن الدولة المغضوب عليها قد لا تتخذ إجراءات لإصلاح الموقف، ولا لتهدئة الدولة الغاضبة، لو أنها استشعرت أن ذلك الغضب ليس كاسحاً ولا عنيفاً بما يكفى لتحويله إلى تهديد جدى يؤخذ فى الحسبان، خاصة لو أن قادة الدولة الغاضبة كانت لهم سوابق فى التعبير عن غضبهم دون أن يكون ذلك الغضب مصحوباً بتحرك عقابى فعال وملموس على الأرض. إن الاكتفاء المستمر بالتعبير عن الغضب دون أن يصاحب ذلك أفعال تأديبية تتناسب معه، هو أكثر ما يمكن أن يفقد «دبلوماسية الغضب» حدتها وتأثيرها.
إن الجدوى الحقيقية من دبلوماسية الغضب تكمن فى أن الدولة الغاضبة تعطى إنذاراً للدولة المغضوب عليها بأنها ستخرج عن قواعد اللعبة السياسية المتعارف عليها، وأنها جاهزة فى أى لحظة لاتخاذ ردة فعل غير عقلانية ولا يمكن التنبؤ بها لو أنها واصلت استفزازها، وهى تعنى أيضاً تحذيراً وإنذاراً مبكراً من الدولة الغاضبة بأنها قد تتخذ ردة فعل مبالغاً فيها، ولا تتناسب مع حجم التجاوز الذى تراه فى حقها، لأنها ببساطة تتخذ ردود فعلها فى لحظة غضب!
تؤكد الدولة الغاضبة هذه الرسالة بأن تتعمد إظهار مسئوليها الذين يشعرون بغضب فعلى وتلقائى وشخصى من إساءة دولة أو طرف آخر، وأن تسمح لهم، بل تشجعهم على أن يظهروا غضبهم بشكل علنى ليظهروا أن الدولة قد خرجت من منطقة السياسة التقليدية ودخلت إلى منطقة العواطف والانفعالات التى لا تقبل التفاوض ولا يصلح معها النقاش. وهى بذلك لا تلعب فقط على وتر تهديد الأطراف المستفزة لها، لكنها تشحن المواطنين على المستوى الداخلى فيها، هؤلاء الذين يشعرون حتماً بأنهم يصطفون وراء دولتهم فى مشاعر غضبها، الأمر الذى يجعل من الصعب على المسئولين فيها أن يتراجعوا عن غضبهم فى هذه الحالة، حتى لو أرادوا، إذ إن انتقال المشاعر المشحونة بالغضب من قادة الدولة إلى شعبها ليس أمراً سهلاً يمكن إطفاؤه بضغطة زر أو خطاب مهدئ، لأن قادة الدولة يواجهون فى هذه اللحظة مسئولية إثبات مدى جدية غضبهم ليس أمام من أغضبوهم، ولكن أمام شعوبهم.
«داعش» تستعرض قوتها
الشرطة ورجال الإسعاف الفرنسى خلال نقل ضحايا حادث باريس
الإرهابيون يمتلكون أسلحة خفيفة
جانب من حطام الطائرة الروسية