دالفتنة بكل أنواعها شر مستطير على الإنسانية، وحسبنا قول الله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة: 191)، وقوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة: 217). ومن أسوأ أنواع الفتن ما يكون سببها داعياً فى الأصل إلى فضيلة كالدين والمذهب الفقهى، فصاحب الدين ارتقى بإنسانيته عن الماديات التى يراها مبادلات يدوية وليست مسكونات قلبية حتى كان من أصول دعائه ولو بلسان الحال: (اللهم إن جعلت لنا الدنيا فاجعلها فى أيدينا ولا تجعلها فى قلوبنا)، بمعنى أنه إن جاءت الدنيا فى أيدينا بالسعى المتاح والمشروع فسنقوم بحقها حتى يتم نقلها إلى أيدى غيرنا؛ لأن الدنيا دول بين الناس ومهما طالت فى أيدى البعض فلا محالة أنها زائلة إلى الآخرين ليميز الله الخبيث من الطيب، ويعلم المفسد من المصلح.
هذا عن صاحب الدين، وأما صاحب المذهب الفقهى فالأصل أنه فى مرحلة متقدمة عن صاحب الدين؛ لأنه تدرج من مكارم الأخلاق إلى مكارم الأفكار، أو من حسن الخلق فى المعاملات إلى حسن الفكر فى المعلومات، وهذه درجة أعلى سمواً بصاحبها لأنه يعتقد أن الصواب قد يكون عند غيره، وأن الخطأ ليس بعيداً عن رؤيته مما يزيده تواضعاً فى نفسه وإصغاءً لفقه غيره، كما كان الإمام الشافعى يقول عن اجتهاده: (قولى صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب).
وإذا ثبت أن الدين والمذهب الفقهى يدفعان فى حكم الأصل بصاحبهما إلى مكارم الأخلاق والفكر وإلى حُسن التعامل والعلم، وكأنهما صمام الأمان للأسرة الإنسانية إن ابتليت بمن يشغلها بالماديات ويجعلها فتنة للصراع الإنسانى؛ فيعلو صوت أصحاب الأديان الأبرياء لإخماد فتنة الماديات بمكارم الأخلاق ومحاسنها، كما يظهر صوت أصحاب المذاهب الفقهية للأخذ بأيدى المتحاربين ليس فقط لوقف الحرب بينهم وإنما لتعاونهم جميعاً إلى ما فيه خيرهم جميعاً بمكارم الفكر ومحاسن العلم؛ كما قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).
ومع هذا الأصل الطبيعى لدور الدين والمذهب الفقهى فى خدمة الإنسانية وتأمينها من شرور الفتن والحروب، فإن شيئاً خبيثاً (ما) قد حدث فى غفلة من الزمن فجعل من الدين والمذهب الفقهى شيئاً باطنه وظاهره عذاب؛ حتى صار الإرهاب والعنف رديف الدين، والاستبداد والتحكم رديف المذهب، وهذه ثالثة الأثافى أن نرى داعية الرحمة والفضيلة سبباً للفتنة والفساد، مما يستوجب علينا البحث للكشف عن هذا الجبروت المتسبب فى قلب نواميس الحقائق عند البشر، ولماذا نذهب بعيداً ونصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية قد أخذت بأيدينا إلى أول الطريق فى معرفة الداء وهو الأنانية المعتمدة على جناحين ناريين وهما العصبية والغرور.
أما العصبية فهى الحمية التى تربط بين عضلات جماعة معينة بمخ جمعى واحد يديره زعيمهم بعقله المحدود، فتفقد تلك الجماعة الانتفاع بعقول أفرادها، ولكنها تكون كالجسد الواحد فى قوة اليد الضاربة ليس فى جوامع الأمور فحسب وإنما فى صغائرها كذلك مما يوصفها كثيراً بالحمق؛ لاستغناء أفراد تلك الجماعة عن حقهم فى الاستقلال الفكرى، فإذا كانت تلك الجماعة من ألف شخص مثلاً فإنها ستظهر بقوة عضلات عددها ولكنها ستفقد تسعمائة وتسعة وتسعين مخاً أو فكراً؛ لأن الذى سيتحكم فيهم هو زعيمهم بعقله الفرد أو بمخه المحدود.
وأما الغرور فهو الاعتماد على خيالات النفس وأوهامها التى يظنها صاحبها حقائق مسلمة ويسعى إلى فرضها على الناس بزعم أنه الأعرف ببواطن الأمور وأنه المسئول عن إدارة شئون الله فى الأرض.
ويأتى القرآن الكريم لينسف مبدأ الأنانية فى التعامل مع الناس عندما وصف الوطنيين الذين تبوأوا الدار والإيمان بقوله سبحانه: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9). كما يأتى الرسول صلى الله عليه وسلم بنسف جناح العصبية البغيض بما أخرجه أبوداود بسند فيه مقال: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية).
وكان من أسوأ ما رآه المصريون من فتن دينية ومذهبية ما افتعله الإخوان وأعوانهم فيما سموه المشروع الإسلامى، وهو فى الحقيقة مجموعة من أفكار زعمائهم المحدودة ببشريتهم واستطاعوا أن يسوّقوا لها بخداع العصبية والغرور فوصفوها بالإسلامية تطاولاً على الله عز وجل، والناس فى غفلة ولكن عين الله لا تنام، فهو القائل: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة: 79).
وفى الأيام القليلة الماضية كاد أن يصول على المصريين فصيل مذهبى آخر اتخذ من العصبية والغرور منهجاً لفرض فكره البشرى المحدود على أنه دين مقدس لا يعارَض لولا فضل الله بفطنة أجهزة الأمن المصرية ورشد فضيلة معالى وزير الأوقاف الذى اتخذ القرار فى الوقت المناسب بإغلاق حجرة ضريح الإمام الحسين يوم عاشوراء ذكرى استشهاده؛ استجابة لعموم قوله تعالى: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73)، فمنع تجمهر أتباع مذهب الشيعة لاستعراض عددهم تحت رمزية الإمام الحسين والتقاط الصور والفيديوهات للمتاجرة بها عالمياً، وبهذا يتم استخدام الدين والمذهب الفقهى فى إشعال الفتن والحروب الأهلية، وكأن أعداء المصريين يقولون لهم إذا كان الإخوان وأعوانهم قد فشلوا فى إشعالكم فتنة فإن المتشيعين وأعوانهم لكم بالمرصاد، وإلا فما معنى تصريح الإمام مقتدى الصدر بأن غلق حجرة ضريح الإمام الحسين يوم عاشوراء بمثابة غلق المسجد الأقصى أمام قاصديه من المصلين.
إن المصريين فى يقظة دائمة، وحسبهم أن النبى صلى الله عليه وسلم قد شهد لهم بالجاهزية المستمرة عندما قال عنهم: (إنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة)، كما أخرجه الدار قطنى وغيره. وإذا كان رجال أمن مصر الأبطال فى رباطهم المشهود لحمايتها فإنه يجب على فقهاء مصر ومفكريها أن يعيدوا للدين حسن سُمعته من تحلى صاحبه بمكارم الأخلاق ومحاسنها، كما يجب عليهم أن يعيدوا للمذهب الفقهى حسن مقصده من فتح باب المنافسة الفكرية سعياً وراء طلب الأحسن دائماً بتواضع من يرى أن ما وصل إليه من بالغ الاجتهاد يحتمل الخطأ؛ مما يجعل الدين رحمة والمذهب الفقهى حضارة، فإن تسبّبا أو أحدهما فى نشر العصبية أو الغرور فلا يكون هذا ديناً ولا يكون ذاك مذهباً، وإنما يصيران إرهاباً وفتنة يستحق زعماؤهما ما ورد فيما أخرجه الرافعى فى (أماليه) عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها).