طوّق المجتمع الدولى عنق مصر بإكليل من الغار، وفى اعتراف جماعى دولى غير مسبوق بشرعية ثورة 30 يونيو صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأغلبية ساحقة تشبه الإجماع، لصالح حصول مصر على مقعد مناوب فى مجلس الأمن. وبالطبع ليست المرة الأولى التى تنتزع فيها مصر مقعدها عن استحقاق ضمن الدول العشر التى تشكل أغلبية ثلثى مجلس الأمن، لكنها المرة الخامسة التى لا تشبه كل المرات. هذه المرة تأتى بعد محاولات فاشلة لضرب حصار دولى على مصر بقصد عزلها، والتشكيك فى شرعية الثورة الشعبية التى خلعت حكم جماعة الإخوان الفاشية، وعبّدت الطريق أمام تحول ديمقراطى واسع. قد لا يكون هذا الاعتراف الدولى بشرعية ما جرى فى مصر هو المغزى المهم من عودة مصر إلى مقعدها المناوب. لكن المغزى الأهم هو الدور الذى ينتظره الآخرون من مصر فى الدورة الجديدة لإصلاح النظام الدولى، ليصبح أكثر عدلاً وديمقراطية، وهو دور تتطلع إليه كتلة عريضة من بلدان الجنوب الذين يبحثون عن علاقات دولية عادلة ومتكافئة مع أقرانهم من دول الشمال، لا يوفرها النظام الراهن للعلاقات الدولية الذى قام على مبدأ احتكار سلطة القرار الدولى، كما تعبّر عنه الصلاحيات الواسعة -بما فى ذلك حق الاعتراض- الممنوحة لعدد محدد من الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن. وقد تراكمت أخطاء تاريخية لتباعد بين النظام الدولى وما ينبغى أن يوفره من «تعددية» ديمقراطية ودولية تضمن حقوقاً متكافئة للدول المختلفة التى يتكون منها هذا النظام، أياً كان حجم الدولة وطبيعة نظامها الاجتماعى وخياراتها السياسية والاقتصادية.
لقد انتهت الحرب الباردة فى نهاية القرن الماضى بانتصار أمريكى صامت على الاتحاد السوفيتى السابق. وعادة بعد الحروب الكبرى تنعقد مؤتمرات يُتفق فيها على تنظيم العلاقات الدولية. فبعد حروب نابليون فى أوروبا انعقد مؤتمر «فيينا» فى عام 1815. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى انعقد مؤتمر «فرساى» بفرنسا الذى أدى إلى قيام عصبة الأمم. وبعد الحرب العالمية الثانية انعقد مؤتمر «سان فرانسيسكو» بأمريكا الذى أدى إلى قيام الأمم المتحدة. أما بعد انتهاء الحرب الباردة فلم تنعقد أى مؤتمرات لوضع أسس للعلاقات الدولية بعد الحرب الباردة، لا لسبب إلا لأن الولايات المتحدة، وهى المنتصر الوحيد فى هذه الحرب الباردة، قد رأت أنها تستطيع بمفردها إدارة العلاقات الدولية، ومن ثم فلسنا بحاجة لمؤتمر دولى يضع أسساً للعلاقات الدولية فيما بعد الحرب الباردة. وحول هذا الدور الأمريكى الجديد يقول الدكتور بطرس غالى، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة: «حدث خلاف كبير بين الدول التى تؤمن بحد أدنى من الديمقراطية فى العلاقات الدولية من ناحية وبين أنصار الهيمنة وسيطرة القطب الأوحد وإيجاد ما يسمى (إمبريالية جديدة) من ناحية أخرى». ويعترف الدكتور غالى بأن الحرب الباردة شقت التحالف الدولى الذى أدى إلى انتصار الحلفاء، وأدى هذا الانشقاق إلى تجمد الأمم المتحدة، فلم تستطع أن تحقق أى هدف من أهدافها، باستثناء دورها الهام فى تصفية الاستعمار.
وباستثناء تصفية الاستعمار لم تقم الأمم المتحدة بتحقيق الهدف المنشود وهو تحقيق التعددية. وقد كان ثمة يقين آخذ -لحسن الحظ- فى التراجع، وهو أن الألفية الثالثة أو على الأقل القرن الحالى سيشهد استمراراً للهيمنة الأمريكية على النظام الدولى. وهى هيمنة قوبلت بالرفض، ليس فقط من المجتمع الدولى، وإنما أيضاً من تيار أمريكى داخلى، بما فى ذلك قيادات فكرية أمريكية مثل بريجنسكى مستشار الرئيس الأمريكى الأسبق كارتر للأمن القومى، وصموئيل هنتنجتون صاحب «نهاية التاريخ». ويرى هذا التيار أن من مصلحة أمريكا أن تتعاون مع الدول الأخرى وأن تُسلّم بالتعددية، وأن تقبل حداً أدنى من الديمقراطية فى اتخاذ قرارات السياسة الدولية، وإلا ستكون «دولة يتيمة» ليس لها أصدقاء فى المجتمع الدولى! وثمة تناقض بين الحرب التى تقودها أمريكا ضد نظم تتهمها بالاستبداد وبأنها غير ديمقراطية، وسكوتها على نظام عالمى غير ديمقراطى لا تتوافر فيه التعددية السياسية تحتكر فيه وحدها، وأحياناً مع بعض حلفائها، سلطة اتخاذ القرار الدولى. إن معالجة هذا التناقض لا تكون بالخروج على الأمم المتحدة، وإنما عن طريق تدعيمها، أو بإنشاء منظمات دولية جديدة يُناط بها الإشراف على الأبعاد المختلفة للنشاط الدولى. وتدعيم الأمم المتحدة لا يكون إلا بإدخال الديمقراطية إلى منظماتها، وفرض قيود صارمة على استعمال حق الفيتو بدلاً من أن يظل حقاً مطلقاً «للكبار فقط»، وتوسيع العضوية الدائمة لمجلس الأمن توسعةً تضمن تمثيلاً عادلاً للمناطق والأقاليم، وإعادة النظر فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، والسماح للأهالى والجمعيات غير الحكومية وممثلى البرلمانات والأحزاب والخبراء بالاشتراك فى إدارة العلاقات الدولية. بمعنى آخر، لا بد أن يتوفر حد أدنى للديمقراطية فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن تُضمن الديمقراطية لأى منظمة أخرى تتولى فى المستقبل تنظيم العلاقات الدولية.
فى 2013، وبمناسبة العيد الخمسينى للاتحاد الأفريقى صدرت (أجندة أفريقيا 2063)، وهى رؤية مستقبلية لأفريقيا بعد 50 عاماً تطالب -فى فصلها الأخير- بإصلاح النظام الدولى وإعادة تصحيح خطأ تاريخى ترتب عليه حرمان أفريقيا من مقعد دائم فى مجلس الأمن. وعلى مصر وهى الآن صوت أفريقيا فى المجلس والعضو المؤسس للأمم المتحدة فى 1945 والعضو المؤسس لمنظمة الوحدة الأفريقية فى 1963 أن تحمل رسالة قارتها إلى الأمم المتحدة، وأن تتحرك دبلوماسيتها المقتدرة لانتزاع اعتراف دولى بحق الأفريقيين فى مقعد أو مقعدين دائمين فى مجلس الأمن. وهى مهمة -إن تحققت- تُزكى مصر -بجدارة السبق التاريخى والرصيد النضالى- لأى تمثيل دولى لقارتها الأم.