كانت إرادة الله عز وجل فى خلق الإنسان واستخلافه فى الأرض أن يكون متنامياً فى إصلاحها ومتطوراً فى إعمارها ودؤوباً فى بنائها كما قال سبحانه: «هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» (هود: 61)، يعنى جعلكم عمَّارها وبانيها. ولعل هذا ما أصاب الملائكة بالخوف من أن يفشل الإنسان فى الوفاء بمراد الله فيه، وظهر هذا الخوف فى إجابتهم لقول الله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» (البقرة: 30).
وكانت المفاجأة للملائكة بعطية الله تعالى لآدم عليه السلام من سلاح العلم الذى لا يحمله أحد بكل أمانة إلا وكان مصلحاً بذاته معمراً بيديه مجدداً بفكره وعقله، فألجم الملائكة الحجة التى جددت تقديسهم له سبحانه كما قال تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (البقرة: 31)، أى إن كنتم صادقين فى تخوفكم من فشل آدم وبنيه فى إعمار الأرض، فكان جوابهم كما قال تعالى: «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ» (البقرة: 32، 33).
وبدأ آدم عليه السلام حياته فى الأرض معتمداً على نفسه بتفويض من الله تعالى بعد تمكينه من العلم بأسماء الأشياء التى من خلال الغوص فى معانيها استطاع وبنوه من بعده جيلاً بعد جيل أن يبنوا حضارات وأن يشيدوا إعمارات تعلو فى مستواها وتنخفض بحسب درجة التزامهم بأصول العلم ومقتضياته.
ثم جاءت خاتمة الرسالات السماوية تأمر الإنسان بقراءة علوم الأجيال السابقة والبناء عليها لتكوين علم تراكمى يدفع بأصحابه الذين انفتحت أمامهم كل سبل المنافسة العلمية إلى الانطلاق نحو مرحلة الكمال التى يتحقق فيها قول الله تعالى: «حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارَاً» (يونس: 24).
إن الوصول إلى مراد الله تعالى من خلقه فى إعمار الأرض وزخرفتها وزينتها لن يتم إلا بعلم أسماء الأشياء وحقائقها الطبيعية الذى أعطاه الله تعالى لآدم. وتحكيم العلم فى إعمار الأرض أو حتى فى فهم النصوص القرآنية والنبوية لا يعنى هدم الدين أو النيل منه كما يشيع أوصياء الدين الذين نصبوا من أنفسهم ظلماً وكلاء عن الله فى دينه أو المتحدثين الرسميين عنه، فالله تعالى هو الذى أمر بالعلم فى أول ما أنزل من القرآن فى سورة العلق، وجعل استحقاق مراتب العلا به كما قال سبحانه: «يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ» (المجادلة: 11).
أما هؤلاء الأوصياء فقد عمدوا إلى فرض قناعتهم الدينية على الآخرين وكأن هؤلاء الآخرين ليس لهم حق فى الله أن يدينوا له بما تصدقه قلوبهم ويغلب على ظنهم حسن عبادتهم به، فألبسوا على عوام الناس الحقائق بتخليطهم بين علاقة الإنسان بربه التى مبناها النية الشخصية أو الضمير الذاتى وفق المعتقد الدينى الذى يغلب على ظن صاحبه تحصيل رضاء الله تعالى به، وبين علاقة الإنسان بأخيه الإنسان التى مبناها التراضى أو التوافق وفق منظومة عقود ظاهرة أو معلنة كتابياً أو عرفياً تحقق السيادة المتبادلة بين أطراف التعامل، بحيث يحمى كل إنسان عقيدته الدينية لنفسه وقناعته الشخصية لذاته ثم يتعامل مع الآخر بمثل ما يحب أن يعامله به.
هذا التحرير الأمين للعلاقات بين العبد وبين ربه ثم بين العبد وبين العبد الآخر يُعرف مؤخراً بالعلمانية، وهى بكسر العين مصدر صناعى من العلم الذى لا يخفى إكرام الله لأهله، كما أنها بفتح العين مصدر صناعى من العالم الذى أمرنا القرآن بالتواصل مع أهله تأثيراً فى الآخر وتأثراً به.
كما عاش النبى صلى الله عليه وسلم تلك العولمة فيما أخرجه مسلم عن جدامة بنت وهب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت فى الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئاً»، فلم ينه عن الغيلة التى هى اللقاء الزوجى خلال فترة حمل الزوجة أو إرضاعها، وكان فى مقدور النبى صلى الله عليه وسلم أن يسأل الوحى عن الغيلة إلا أنه أراد أن يعلمنا التواصل الإنسانى، كما أخرج الشيخان عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشىء.
إلا أن أوصياء الدين بطاغوتيتهم على الناس وجبروتهم على الحق أساءوا لسمعة العلم والعالمية فسحروا أعين الناس واسترهبوهم حتى اعتقدوا الكذب بأن مصطلح العلمانية نقيض مصطلح الإسلامية، ويمارس بعض سحرتهم الشعوذة الفكرية بقلب مقصود العبارات الإصلاحية البريئة مثل عبارة «فصل الدين عن الدولة»، وعبارة «لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين» فإن أصحابها لا يزايد عليهم فى خلق ولا دين، وإنما يهدفون من تلك العبارات إنقاذ الناس من الكهنوت الدينى بفرض قناعة أحد على أحد لمجرد وصف نفسه بوصف دينى، فحسب كل إنسان أن يُدخل دينه فى سياسة نفسه لا فى سياسة غيره، وأن يلتزم بقناعته عند إبرامه لعقوده أو معاهداته لا يُلزم غيره بها، وهذا ما أجمع عليه الفقهاء وأصدروا به عبارتهم الشهيرة والمهمشة للأسف «كل إنسان مؤتمن على دينه»، كما يدل عليه ما أخرجه ابن عدى فى «الكامل» بسند حسن عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «كل بنى آدم سيد»؛ إذ من مقتضى تلك السيادة ألا يفرض إنسان على آخر قناعته الدينية أو حتى الحياتية فى عباداته ومعاملاته وسياساته.
وهذا ما اختاره المصريون لأنفسهم من قديم الأزل، كما أنصفهم الأستاذ «حلمى النمنم»، وزير الثقافة، فى قوله مؤخراً: «إن المصريين علمانيون طوال تاريخهم»، يعنى لا يحتكمون للجهل والكهنوت، وإنما يحتكمون للعلم كما أمر الله. وهذا إذا كان نطق العلمانية بكسر العين، فأما إن كان نطقها بفتح العين فالمقصود هو أن المصريين غير محدودى الثقافة وإنما يستوعبون الثقافة العالمية. وقد قامت قيامة قيادات الإخوان والسلفيين ولم تقعد عندما أدركوا بهذا الكلام الذى يعبّر عن حقيقة المصريين العلمية أنهم فقدوا عروشهم وسقط برنامجهم الانتخابى الزائف أمام أتباعهم، وللمصريين أن يقولوا للطواغيت ما علَّمهم الله قوله لمن بدت البغضاء من أفواههم: «قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» (آل عمران: 119).