فى خطابه أمام الدورة السبعين للأمم المتحدة، ألقى الرئيس الفلسطينى محمود عباس، قفاز التحدى فى وجه إسرائيل، وأعلن انسحاب السلطة الفلسطينية من اتفاق أوسلو، رداً على تسويف إسرائيل لوعودها بإنهاء الاحتلال الإسرائيلى ووقف الاستيطان، ووضع حد لمعاناة الشعب الفلسطينى التى بلغت ذروتها بالعدوان على المسجد الأقصى والقمع الوحشى للشعب الفلسطينى. هل قرر أبومازن بهذا الإعلان التمهيد لقراره الأخطر الذى يبدو أن الظروف تدفع باتجاهه، وهو حل السلطة الفلسطينية نفسها، وإلقاء كرة النار المشتعلة -وأقصد بها الشعب الفلسطينى الرازخ تحت القهر اليومى- على إسرائيل لتتحمّل وحدَها، كسلطة احتلال، مسئولياتها فى الأراضى الفلسطينية المحتلة. ما يعنيه هذا القرار أن الأوان قد حان لإنزال الستار على حل الدولتين، الذى ضيّع فيه الفلسطينيون وقتاً طويلاً مثل «جودو» «فى انتظار» دولتهم المستقلة، التى لن تأتى أبداً، والاستعاضة عن ذلك بخيار الدولة الديمقراطية الواحدة ذات القوميتين، رغم الصعوبات الحالية التى يمكن أن تعترض طريقه، خصوصاً أن الجهات الرسمية الفلسطينية والإسرائيلية لا تؤيّد هذا الحل. ففى ظل سياسة إسرائيلية عميقة للاستيطان فى الضفة والقدس كرّست فيها سلطة الاحتلال استثمارات هائلة عن طريق قطاعها العام لدعم البنية الاستيطانية وجعلها غير قابلة للتفكيك، صار بوسع إسرائيل أن تضم الضفة والقدس عملياً وفعلياً، وليس قانونياً، كما أن الإجراءات الإسرائيلية فى القدس جعلت إمكانية إعادة تقسيمها كما كان عليه الحال فى عام 1967، أمراً غير ممكن الحدوث، ناهيك عن العقبة الكبرى، وهى حق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة أو التعويض، مما يعنى أن حل الدولتين لم يعد قائماً. إذ كيف يقبل الفلسطينيون إقامة دولة فلسطينية من دون القدس؟ وكيف يقبلونها، والجزء الأكبر من شعبهم فى الشتات؟ ومن ذا الذى يظن أن إسرائيل، حتى طبقاً لاتفاقيات أوسلو كانت تنتوى إقامة دولة فلسطينية؟ كل ما فى الأمر أن إسرائيل استخدمت هذه الاتفاقية لتثبيت أوضاعها فى الأرض المحتلة من ناحية، ولتتخلص من «القنبلة الديمجرافية» من ناحية أخرى، وتنفض عن كاهلها تكاليف الاحتلال التى لا يتحملها -مع الاعتذار لشكسبير- (شيلوك) اليهودى، وإنما يتحملها نيابة عنه صديقه (أنطونيو) أو الاتحاد الأوروبى وغيره من الدول المانحة من ناحية ثالثة.
وتعمل إسرائيل بتواطؤ أمريكى على خيارين أحلاهما مر، إما «الأبارتهايد» أى الفصل العنصرى، وإما «الترانسفير»، أى الإجلاء والتهجير القسرى، وذلك لأن أهم ما يقلقها هو «القنبلة الديمجرافية الفلسطينية»، ما أدى بها إلى أن تهرب من قطاع غزة، وأن تحصر الفلسطينيين فى معازل بالضفة، وأن تقيم جداراً للفصل العنصرى، يعزل بين الفلسطينيين فى الضفة وإخوانهم وراء الخط الأخضر.
تُرى هل كان «حل الدولة الواحدة» يراود تفكير «أبومازن» وهو يعلن انسحابه من اتفاقيات أوسلو؟! وهل كان يعنى بانسحابه الاعتراف بفشل حل الدولتين تحت وطأة العنف الإسرائيلى فى الضفة والقدس؟! ولم يبقَ إلا أن يُعلن عن حل السلطة الفلسطينية والانخراط فى مبادرة جديدة تدعم خيار إقامة دولة واحدة تضمن العدالة والحقوق المدنية المتساوية للجميع عرباً ويهوداً؟!
قد لا يكون صحيحاً أن حل الدولتين قد وصل إلى طريق مسدود، طالما أنه لا يزال ثمة احتمال لقبول فلسطينى بدولة فلسطينية، حتى وفق المواصفات الإسرائيلية! أو بالمواصفات الدنيا المطلوبة فلسطينياً، لذلك لن يُسدل الستار نهائياً على حل الدولتين، إلا حين يُعلن عن ذلك فلسطينياً وبصورة رسمية وقطعية، وهو ما لم يفعله «أبومازن» حتى الآن، لكن حدوثه وارد! وإن كان ليس من الحتمى أن يؤدى ذلك، إن حدث، إلى الدخول فى مسار وحيد، وهو مسار الدولة الواحدة، الذى تقف له إسرائيل بالمرصاد وتحاول بسياساتها المتعدّدة والمركبة أن تمنع كل حديث حوله. فهى كقوة احتلال يمكنها أن تعيق -بوسائل عديدة- المسار نحو الدولة الواحدة. من ناحية بإمكانها إذا تأزم الوضع الداخلى فى الضفة والقدس أن تلجأ إلى القيام بانسحاب أحادى الجانب من أجزاء فى الضفة، لا تشمل المستوطنات بالطبع، كما حدث فى قطاع غزة، وتبقى هيمنتها عن طريق التحكم عن بُعد. ومن ناحية ثانية يمكنها أن تحافظ على استمرارية الوضع الراهن لسنوات قادمة عن طريق (تصبير) الفلسطينيين بإدخال تحسينات على نوعية الحياة تحت الاحتلال. وهى تحسينات لا بأس أن يسهم فى تمويلها -تحت وخز الضمير- المانحون الغربيون. ومن ناحية ثالثة قد يكون أنسب لإسرائيل أن تتوصّل مع الفلسطينيين إلى اتفاق انتقالى جديد على غرار اتفاق أوسلو، ينتج حالة فلسطينية جديدة بين الاستقلال والاحتلال وتدوم طويلاً! ولأن إسرائيل هى الآن ولزمن مقبل غير معلوم هى الدولة الأقوى فى معادلة موازين القوى، فلا أحد يتوقع منها أن تتنازل وتقبل طواعية بدولة واحدة، يشاركها فيها «آخرون» بحقوق مواطنة كاملة غير منقوصة! أليس من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- أن تتنازل إسرائيل عن فكرة «النقاء العرقى» و«يهودية الدولة»، وهى فكرة صهيونية لا يمكن تحقيق إقامة دولة واحدة إلا بتخطيها؟! ليس من المتوقّع إذن أن تقبل إسرائيل بخيار الدولة الواحدة إلا إذا أُكرهت عليه إكراهاً. لكن من ذا الذى يعلق الجرس فى رقبة القط ويضعها على هذا المسار الإجبارى؟ إن إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية وقيامها بإغلاق الباب على حل الدولتين شرط ضرورى لوضع إسرائيل على المسار المطلوب. لكن ذلك لن يكون كافياً بذاته ما لم يتخذ الفلسطينيون الخطوة العملية الأهم، وهى «حل السلطة»، التى بوجودها سيبقى خيار حل الدولتين إمكانية محتملة وإن لم تكن حقيقية.