ثمة أسباب كثيرة موضوعية للقلق الذى يسكن كثيرين قلوبهم مخلوعة، وهم يتابعون السباق الانتخابى نحو برلمان 2015 أو «برلمان المهام الصعبة». بعض هذه الأسباب وليد البيئة السياسية «الرخوة» التى لم تستقر على حال ثابت، بعد زلزالين ثوريين ارتجت تحتهما الأرض، أحدهما فى 25 يناير 2011 والثانى فى 30 يونيو 2013 وتوابعهما، وما أفضيا إليه من سيولة «سياسية» و«حراك» اجتماعى «وردود» أفعال ليست جميعها إيجابية، فى غيبة منظمات سياسية فتية ناضجة مؤهلة، لم تهترئ تحت وطأة الفساد والتجريف، «خبيرة» بإدارة مراحل الانتقال فى ظروف ثورية استثنائية.
بعض «المثاليين»، «الحالمين» بانتقال سلمى وسلس للدولة من مرحلة الشرعية الثورية إلى مرحلة الشرعية الدستورية كانوا يتمنون أن يكون برلمان 2015 هو بحق «برلمان الثورة» الذى يتوج به المصريون «خارطة الطريق» وهى النهج الذى توافقت على اختياره القوى الشعبية التى صنعت الثورة فى 30 يونيو 2013. ليس ثمة إشارة تنبئ حتى الآن بأن الرياح سوف «تأتى بما تشتهى السفن»! أليس مخيباً للآمال أن «برلمان الثورة» المرتجى لم يتقدم لانتخاباته سوى 6 بالمائة فقط من الشباب فرصهم قليلة؟ والأكثر خيبة للأمل أن المرأة المصرية التى كانت تفترش مساحة المشهد الثورى تكاد تختفى من قوائم الترشيح (3 بالمائة فقط) ولن يكون لهؤلاء حظ يذكر!
وخلافاً لظنون تكاد تلامس اليقين، فإن هناك ألف دليل ودليل تبرهن على أننا فى انتظار «برلمان بلا لون أو طعم أو رائحة»، تفتقر أحزابه وجبهاته وائتلافاته الانتخابية إلى الخيال السياسى. هل تصدق أن 73 بالمائة من المرشحين لمجلس النواب مستقلون بدون انتماءات سياسية أو حزبية؟!
ليس هذا البوار السياسى عن قلة فى الأحزاب السياسية، فهى كثيرة تقترب من 90 حزباً، لكنها «كثرة كغثاء السيل»! تقدم منها للانتخابات 84 حزباً، من بينها ستون حزباً سياسياً مبعثرة لا تتحرك بعيداً عن شقة صغيرة، أو غرفة بأحد أحياء القاهرة، جماهيرها نفر قليل من المؤسسين وأصدقائهم، لم يسمع بهم أحد، ولم يحاولوا الوصول إلى أحد. قد تكون هذه الانتخابات محكاً حقيقياً لاختبار قدرة بعض الأحزاب الجديدة التى حققت تقدماً نسبياً فى انتخابات 2012، مثل المصرى الديمقراطى الاجتماعى أو المصريين الأحرار، وهما أنضج حزبين جديدين من الأحزاب التى نشأت بعد ثورة 25 يناير، يتمتعان دون غيرهما برؤية سياسية ثاقبة وبرنامج سياسى متكامل، وأحدهما يضم قيادات تاريخية كانت تعمل ضمن فصائل المعارضة، أو تحت راية أحزاب قديمة. وليست الأحزاب السياسية القديمة كلها على قلب رجل واحد. وتكاد بعض الأحزاب (التاريخية) القديمة كالوفد والتجمع، تكون منقسمة على نفسها، تعانى من صراعات الأجنحة والتنازع على مقاعد السلطة الحزبية، ويتوزع المنشقون من أعضائها على الأحزاب الجديدة، أو يخوضون الانتخابات مستقلين. هذا «الغثاء» الحزبى الذى يمثله فى الانتخابات البرلمانية 84 حزباً لن يتجاوز مرشحوه 27 بالمائة فقط من إجمالى المرشحين، بينما يزيد مرشحو الحزب الوطنى المنحل (2206) على نصف عدد المرشحين المستقلين (4355)! وإن 20 بالمائة تقريباً من مرشحى «آل البوربون» أقصد الحزب الوطنى المنحل يستندون فى معركتهم الانتخابية على عصبيات قبلية وعائلية وقدرات مالية كبيرة، ومعظمهم فى محافظات الصعيد.
سوف تكون الانتخابات البرلمانية مقياساً لوعى الناخب المصرى الجديد الذى تمرس على الألعاب الخداعية لتيارات الإسلام السياسى، وانطلت عليه أكاذيب مرشحيهم فى انتخابات 2012، واكتشف بعد الثورة أن الحكم ودونه قطع الرقاب هو وحده الهدف، وليس الإسلام. أظن -وليس كل الظن إثم- أن حظوظ الأحزاب الدينية من مقاعد المجلس النيابى الجديد هى فى أحسن توقعاتها لن تجاوز 5 بالمائة، ومن ثم لن تطول جلسة الإجراءات الافتتاحية للمجلس فى حلف اليمين القانونية (بما لا يخالف شرع الله) كما طالت فى مجلس «قندهار» المنحل المعروف ببرلمان 2012. الذى جاء بما خالف شرع الله والوطن والدستور!
ومجلس يغلب على تكوينه مستقلون لا ينتمون لأحزاب سياسية إلا فيما ندر أو تيارات معروفة أو زعامات برلمانية ذات وزن يجلجل صوتها تحت القبة، هو مجلس يتمتع بالوداعة والمؤانسة لا تخشى بأسه حكومة، أو تخافه سلطة تنفيذية، حتى وإن كان الدستور قد غالى -بحسن نية- فى الصلاحيات التى خولت إليه خصماً من سلطات الرئيس!.
سوف يقضى البرلمان دورته كاملة وينجز التشريعات التى تُقنن لثورتين، لكنه قبل أن يأذن بالرحيل عليه أن ينتهى من التعديلات الدستورية التى لا مناص منها إذا ما أريد للتوازن بين السلطات الثلاث أن يتحقق على النحو الذى يضمن سلامة نظام الحكم وشفافيته ورشادته.
فى ظل هذا الغموض الذى تصنعه بيئة سياسية رجراجة (يغيب) فيها سلطان السياسة والأحزاب (وتحضر) سلطة العائلات والقبائل وسطوة المال والإسلام السياسى، أشك أن يُخمن أحد على نحو صحيح -أو قريب من الصحة- اسم رئيس مجلس النواب المقبل! فأين هى الوجوه السياسية البارزة بتاريخها البرلمانى والسياسى وبرامجها الانتخابية التى تتقدم الصفوف نحو البرلمان المقبل؟ إذا لم تجدها هل ترحَّمت معى على نواب كانوا ملء السمع والبصر والفؤاد؟!