مرة أخرى يقدم الشارع العربى المظلوم والمكلوم نموذجاً رائعاً فى الوطنية والأخلاق والصمود.. ذلك الشارع الذى استيقظ فى تونس وتمدد إلى القاهرة ومنها إلى بقية بلداننا العربية التى جار عليها الزمن وتجبر عليها الطغاة.
برغم كل النفوس الضعيفة وفريق تبريد الثورات وفاقدى الثقة فى أنفسهم وفى شعوبهم، وعُباد الأنظمة ومنتفعيها.
برغم تلك الهجمة التى ظلت تشكك فى قدرة الشعوب على التغيير وأن حراكها كان مؤامرة، مرة موّلها الغرب ومرة أخرى موّلتها أمريكا وفى النهاية أثبتت شعوبنا العربية الثائرة والمستيقظة أنها فرضت إرادتها على الجميع، أمريكا وغيرها، فلو كانت تلك الشعوب تأتمر بأوامر أمريكا ما أسقطت «مرسى» فى مصر الذى ظل الأمريكان غاضبين وحزانى بسببه بل عاقبوا الشعب وقطعوا المعونة العسكرية، ولو كانت أمريكا والغرب قادرين على تحريك الناس ما أسقطوا «مبارك» الذى كان خادماً مطيعاً فى بلاطهم.
ولكن الشعوب دائماً تتفوق وتُملى إرادتها فى كل مكان، فى سوريا ذلك الشعب الذى أثبتت الأيام أنه لم يكن يحارب جيوش بشار الطاغية المجرم بل كان يحارب توازنات أمريكا مع روسيا، وإيران مع تركيا، الكل تواطأ عليه وما زال صامداً بطلاً عظيماً وسيثبت التاريخ أنه كان الأطهر والأنقى.
وهكذا فى اليمن الذى نجح شعبه بمساعدة قوات التحالف العربى فى استرجاع جميع محافظات الجنوب وسيؤسس لدولته التى يريد.
شعب العراق
اليوم العراق المكلوم منذ احتلاله، هذا الاحتلال الذى ضرب وقتها فى 2003 نموذجاً للتواطؤ العربى ضد حاكم مهما اختلفنا عليه ووصمناه بالإجرام والجبروت، ما كان يجب أن يُترك، ويترك بلد عربى تنهشه أسنان الغرب، ويُسرق نفطه وتُزرع فيه السموم الطائفية.
كان على العرب أن يقوّموه ويقفوا فى وجهه كما يفعلون الآن مع على عبدالله صالح ومعه الحوثيون فى اليمن.
العراق الحبيب.. بلد ظللنا نتابعه وأسنان أمريكا وإيران تتناهشه، من يقتل أكثر يفُز أكثر، من يسرق أكثر يفُز أكثر، ونحن نبكى كالنساء أمام الشاشات على دمنا العربى الذى ينزف بلا رحمة، نبكى على جغرافيا تتقطع، وآثار تُنهب.
هذا البلد العريق أبوالحضارات، بلاد الرافدين، بلاد دجلة والفرات، بغداد فى سمرتها، تلك المدينة التى تسكن الروح، وتخطف من يزورها إلى ملكوت من العروبة والإباء.
العراق مؤخراً ينتفض، يستيقظ الشعب الذى كان سيداً للدنيا والذى حوله السياسيون إلى جوعى، شعب أكلته موجة الحر التى اجتاحت الجميع.
ليس هناك مواطن فى أى بلد عربى إلا وللعراق فضل عليه، إما أنه عمل هناك عزيزاً له كامل الحقوق، وإما هناك من أقاربه من عمل، هذا العراق أصبح الآن مسكيناً بعد أن ابتلعه لصوص السياسة وتجارها، تقاسموه منذ 2006 حين جلس «المالكى» على كرسى رئاسة الوزراء واستمر ثمانية أعوام عجاف، لم يترك سنبلة خضراء ولم يترك بقرة تدر حليباً ولا ضرعاً، التهم كل شىء فى بطنه وحين شعر باقتراب الحساب هرب كالفأر إلى سيده الإيرانى، الذى تربى فى أكنافه حين عاش هناك سنين تكوينه التى أنسته عروبته، حينما كان اسمه «جواد المالكى».
هذا الجواد أثبتت الأيام أنه لم يكن جواداً عربياً أصيلاً بل كان مخلطاً بالخيانة. حين جلس على الكرسى لم يترك سيئة إلا وعملها، مارس الطائفية بكل أشكالها، همّش أهل السنة واضطهدهم، وحتى الشيعة المعتدلين لم يسلموا منه ولا من شره، وهنا نذكر موقف مقتدى الصدر منه الذى وقف فى مواجهته وتصدى له، وهو شيعى مثله، لكنه لم يرضَ بطائفيته المسمومة، لكن شر المالكى كان أقوى، وحتى «علاوى» الشيعى العلمانى لم يسلم من شره، كان المالكى نموذجاً أشد سوءاً من «صدّام».
أعود إلى ذلك الشارع العراقى الرائع، الذى ضرب مثالاً للرقى وللوطنية، سبق السياسيين وتجاوزهم، بل أعطاهم درساً جعل العقلاء منهم يعودون إلى رشدهم ويخجلون من طمعهم.
هذا الشارع الذى تجلى فى أزهى صوره لم نرَ فيه إشارة طائفية، أو شعاراً دينياً، أو مذهبياً أو عرقياً، تاه العراقيون وانصهروا فى بوتقة واحدة هى العراق فقط، بلا أكراد وبلا سنة، بلا شيعة وبلا عرب، ما كنا نفرق بين الأشكال كلها تحمل سحنة واحدة عنوانها العراق. فقط كان يردد: بغداد لن تسكت.
كان يقول بغداد الرشيد استيقظت، عادت تنصب ميزان عدلها الذى كسره السياسيون، وستحاسب الخونة وتجار الدين، الذين ظلوا يقطعون من جسد العراق حتى وصلوا إلى العظم ولم يشبعوا، نهم غريب لأكل لحوم وطنهم، حتى وصل بـ«المالكى» إلى أنه باع الموصل، ثانى أكبر مدن الشمال، الموصل عنوان خيانة المالكى.
فى ظل هذا الطهر الشعبى فى محافظات العراق بكل تكويناتها وأغلبيتها وأقليتها، هذا المسمى الذى ما كان موجوداً يوماً قبل 2003، هذا المرض الذى أوجده الاستعمار الإيرانى والأمريكى، قاطعاً بخنجره المسموم القطر إلى نصفين وإلى قلبين.. خرجوا فى بغداد والبصرة والناصرة وديالى وميسان وفى كل مكان، خرجوا يرفضون استمرار تقطيع بلدهم، يقولون للسياسيين اللصوص «.. ألم تشبعوا بعد؟.. ألم تكفِكم الأموال التى سرقتموها؟»، ويا ليتكم تركتموها فى العراق بل هربتموها خارجه، اشتريتم بها الأبراج العالية، ودخلتم شركاء فى فنادق شهيرة.