في نهاية تسعينيات القرن الماضي، كتب الراحل الدكتور حسين أحمد أمين مقالًا صادمًا بجريدة العربي الناصري، تحت عنوان " المثقف المومس "، تكلم فيه عن تحولات المثقفين والسياسيين، وخلعهم لقناعاتهم ومبادئهم القديمة، بهدف نيل الرضي من السلطة وأصحاب الحظوة والثروة، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب الشخصية على حساب احترامهم لتاريخهم وأنفسهم واحترام الناس لهم. لينتهي إلى القول بأن نظام الرئيس مبارك، قد نجح نجاحًا منقطع النظير في تعميم الفساد وآليات الإفساد، وشغل كل إنسان مهما كان علمه أو مهنته أو منصبه، بمصالحة الشخصية والأسرية، وإبعاده عن الأهتمام بهموم الوطن ونشدان الصالح العام. كما نجح أيضًا نجاحًا كبيرًا في مسخ وهدم القدوة والمثل الأعلى، بحيث لم يعد في مصر إنسانًا أو مسئولًا أو رجل دولة، يمكن أن يكون قدوة صالحة، جديرة بالاتباع والإقتداء.
وأظن أن تلك السياسة الي رعاها الرئيس مبارك، وجماعة المصالح المحيطة به، كانت سياسة موجهة، ومقصودة، تهدف إلى تقزيم القيادات والنخب في مصر، بل وتقزيم مصر الدولة، والدور، حتى تصبح بقامة الوريث، وبحيث يظهر بمفرده في الصورة، ويبدو كل المحيطين به دونه في كل شئ.
واليوم، نجني في مصر الحصاد المر، لتلك السياسة المُغرضة، التي فرغت النخبة المصرية من الكوادر الوطنية المخلصة. وافقرت مؤسسات الدولة في هذه المرحلة الحاسمة والفارقة من تاريخ البلاد، من شخصية رجل الدولة كما ينبغي أن يكون؛ وهو الوطني، المخلص، المتفاني في العمل مع أكبر قدر من التجرد وانكار الذات. الشجاع، القادر على اتخاز القرار في التوقيت المناسب، وتحمل عواقبه. الموهوب في التفكير خارج الصندوق، وفق رؤية مستقبلية علمية وعملية. ثم في النهاية الذي يتعامل مع الوظيفة العامة بوصفها مهمة وطنية، وليست مغنمًا شخصيًا.
وأظن أن ثورة يوليو 1952، التي نحتفل في هذا الشهر بذكرها الثلاثة والستين، بكل ما لها وما عليها، ورغم الأخطاء التي وقعت فيها، قد نجحت في تغيير شكل وواقع الحياة في مصر، اجتماعيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا، لأن الرئيس عبد الناصر، قد اعتمد في مختلف مراحل حكمه على عدد لا يحصى من ذوي الثقة و الخبرة والكفاءة الفنية، ممن يحملون صفات رجل الدولة كما ينبغي أن يكون، وقام بتكليفهم بمهام قصيرة المدى أو استراتيجية واضحة ومحددة، مع الاحتفاظ بخيار إصلاح الاختيار باستمرار، كلما بدت ملامح قصور أو انحراف.
ولهذا عرفت الخمسينات والستينات أسماء لامعة لمدنيين وعسكريين، احتل أصحابها مواقع القيادة في المناصب السياسية والتنفيذية، وكانوا رجال دولة من الدرجة الأولى، وبنائين ومؤسسين، كالسيد زكريا محي الدين، ومحي الدين أبو العز، ومحمد نسيم ، وعبد المحسن فائق، وثروت عكاشة، وعبد القادر حاتم، وعزيز صدقي، وكمال رمزي إستينوا، وسليمان حزين، وغيرهم من رجال الدولة المخلصين.
ولهذا فمن المؤسف أن تمر في الخامس من يوليو الجاري، الذكرى السابعة والتسعون على ميلاد الراحل السيد زكريا محي الدين، مؤسس جهاز المخابرات العامة، ووزير الداخلية، ورئيس مجلس الوزراء، وهو واحد من أشرف وأخلص رجال مصر، وأكثرهم تجردًا، وانكارًا للذات، دون أن يتوقف أحد من أهل الصحافة والإعلام عندها، ليستدعي سيرة ومسيرة وشخصية ومُنجز الرجل، في محاولة لإعادة بناء وتكريس حضور مفهوم رجل الدولة كما ينبغي أن يكون، والذي تحقق بكل مقوماته وتجلياته في الراحل زكريا محي الدين.