الثورات عمل بشرى، وكسائر أعمال البشر فيها الخير والشر والعدل والظلم، ولكن حواريى الثورات أو صانعيها أو المشاركين فيها يقدسون هذه الثورات وينزهونها عن كل عيب ويجعلون صفحتها بيضاء شفافة، وبعض كارهيها ومبغضيها وخصومها يبخسونها وينجسونها ويسلبونها حسناتها.
فالثورات تقع عادة بين التقديس المضل أو التبخيس والتنجيس المخل.. ويندر أن تجد حكماً عادلاًً يعطى كل ثورة حقها ويذكر إيجابياتها وسلبياتها.. وما بين التقديس والتبخيس تضيع الحقيقة وتطمس حقائق التاريخ.
والغريب أن البعض فى مصر يريد من الآخرين أن يقدسوا الثورة التى يقدسها.. أو يبخسوا الثورة التى يبخسها.. وإلا شنوا عليه حرباً شعواء.
ويرفض الطرفان المتطرفان من يحكم على الثورات بالعدل والقسطاس المستقيم.
وهذه القواعد تنطبق على كل الثورات بدءاً من ثورة 1919 مروراً بثورة 23 يوليو وانتهاءً بثورات الربيع العربى وثورة 30 يونيو.
ونحن اليوم نعيش ذكرى ثورة 23 يوليو التى أعتبر أن أهم مميزاتها أنها كانت سلمية ولم ترق فيها أى دماء.
والحقيقة أننى لم ألتفت كثيراً لهذه الحسنة وكنت أظنها شيئاً عادياً أو أحسبها أمراً عابراً منطقياً فى كل الثورات.. فلما امتد بى العمر وطال بى الأجل ورأيت نتائج الثورات السورية والليبية واليمنية والمصرية والعراقية وملايين القتلى والجرحى والمشردين.. واللاجئين واليتامى والأرامل والثكالى، والصراع السياسى والمذهبى والطائفى والدينى الخطير الذى نتج عن كل هذه الثورات، وكم الدمار والأشلاء والدماء التى خلفتها هذه الثورات ومحاولة تقسيم البلاد العربية بعدها بصرف النظر عن المتسببين فيها، كل ذلك وغيره جعلنى أعيد اهتمامى بعنصر السلمية الذى تم بجلاء فى ثورة يوليو مرة أخرى.. وأعتبر الآن أنه أعظم إيجابياته.. والفضل فيه لا يعود للضباط الأحرار فحسب.. ولكن يعود أيضاًً إلى الملك فاروق الذى تنازل عن الملك بسهولة.. ولو فعل ذلك د. مرسى لكان حال مصر الآن غير الحال.. ولم ترق قطرة دم واحدة.
لقد خلصت فى نهاية حياتى أن معظم الثورات فى العالم العربى قديماً وحديثاً بدءاً من ثورة 23 يوليو حتى اليوم لم تحقق ما كانت تصبو إليه من أهداف.. ومعظم ثورات الربيع العربى لم تجعل بلادها فى أوضاع أفضل وأحسن مما كانت عليه.. بل حولتها لوضع أسوأ.
ومعظمها تنكبت الطريق وخلفت خسائر ومفاسد أكبر من مصالحها وأرباحها.
ولذلك خلصت أن الطريق الأمثل هو طريق الأنبياء وهو طريق الإصلاح المتدرج الذى يهتم بالإنسان ويؤمن بالتدرج كسنة من سنن الكون والنفس البشرية.
وإذا كانت ثورة 23 يوليو قد حققت جزءاً كبيراً من العدل الاجتماعى ورعاية الفقراء، فإنها قتلت الديمقراطية تماماً وألغت كل مظاهرها وجوهرها فى مصر، وأخرت مصر ديمقراطياً 60 عاماً كاملة بعد أن كانت مصر هى رائدة الديمقراطية فى الشرق كله. وإذا كانت نجحت فى المجال الاجتماعى فإنها فشلت فى المجال السياسى.. حيث دمرت الديمقراطية تماماً فى مصر وألغت تداول السلطة الذى كان موجوداً ويحتاج فقط للإصلاح لا الاجتثاث.
وإذا كانت ثورة 23 يوليو قد اهتمت بالعامل والفلاح والصناعة والزراعة والقطاع العام.. فإنها أخرت الاقتصاد المصرى عن ركب الاقتصاد العالمى.. وحولت مصر من دولة دائنة لبريطانيا إلى دولة مدينة للغرب والشرق. وإذا كانت قد طردت الإنجليز من قناة السويس وحققت التحرر الوطنى، فإنها وقعت بعد ذلك فى أكبر هزيمة فى تاريخ مصر كله، مما أدى لاحتلال سيناء كلها وليس احتلال شريط من القناة بقاعدة إنجليزية.
وإذا كانت قد حققت تقدماً زراعياً وصناعياً ملموساً فى بدايتها.. فإن حصار العالم العربى للثورة ودخولها فى صراعات كثيرة أوقف هذا النمو الاقتصادى المطرد، وخاصة بعد حرب 5 يونيو 1967.. حيث كان الاهتمام الأول والأخير باسترداد الأرض والعرض والكرامة والشرف.. وهذا ما حدث فى حرب 6 أكتوبر التى نقلت مصر والعرب نقلات خطيرة وإيجابية إلى الأمام.
ومن أهم مزايا ثورة 23 يوليو هو تعفف قادتها وخاصة الرئيس جمال عبدالناصر عن المال الحرام، فقد عاشوا جميعاً حياة بسيطة زاهدة.. لا يقبلها الآن أصغر مهندس مرتشٍ فى المحليات.
ومن أهم مزايا ثورة 23 يوليو أن منظومة الفساد والرشوة لم تدب فى مؤسسات الدولة وأن هذه المنظومة بدأت بقوة وفعالية مع عهد مبارك، حتى إن أى مهندس مرتشٍ فى المحليات يملك الآن أكثر مما كان يملكه «ناصر وعامر» ورفاقهما.
وإذا كانت الثورة قد نجحت فى إقامة جيش وطنى حديث من أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة ونجحت فى إقامة قطاعات عسكرية جديدة، فإنها وقعت فى خطأ قاتل حينما سلمت أكبر جيش فى المنطقة للرائد عبدالحكيم عامر الذى رقته مباشرة إلى لواء ثم إلى مشير فى تصرف لا يحدث فى أى دولة متحضرة.. وذلك لتأمين الجيش.. وكان ذلك سبباً فى معظم الكوارث العسكرية التى حدثت فى حرب 1956 وفاجعة 5 يونيو 1967.
ومن إيجابياتها التوسع فى جامعة الأزهر وإدخال الكليات العلمية الحديثة إليها، فى طفرة رائعة واكبها إنشاء إذاعة القرآن الكريم كأول إذاعة للقرآن فى الشرق الأوسط كله.
ومن سلبياتها عدم إدراك الثورة لأهمية الوقف الإسلامى فى رعاية المجتمع.. مما أدى بالثورة إلى إلغاء الوقف وحرمان المجتمع من رافد عظيم من روافد الخير كان يرعى المساجد ودور الأيتام ودور العلم والمدارس والجامعات.. لأن الجميع نسى أن جامعة عريقة مثل جامعة القاهرة «جامعة فؤاد الأول» أنشئت أساساً من أموال الوقف.
ومن سلبياتها فكرة التأميم التى تصطدم مع الفطرة الإنسانية وكل القواعد الطبيعية والدينية والاقتصادية السليمة، مما أدى لانهيار الاقتصاد المصرى على المدى البعيد وعدم دخول أى استثمارات للسوق المصرية وانعزال مصر عن العالم.. ولكن من إيجابياتها أنها وضعت كل ما أممته فى خدمة الدولة ولم تسرق منه شيئاً.. فجعلت كل المبانى التى أممتها كمؤسسات تعليمية أو اقتصادية أو تعليمية أو جامعية.. ولك أن تقارن هذا بما حدث من بيع القطاع العام بثمن بخس «دراهم معدودة» وسرقة أمواله فى عهد مبارك. ومن إيجابياتها أنها قضت على البطالة تماماً ووفرت للمصريين على جميع مستوياتهم أعمالاً شريفة، وأنها حققت الكثير من مبادئ المساواة والعدل الاجتماعى والترابط الاجتماعى.
ولكن من سلبياتها أنها أوجدت ما يسمى «البطالة المقنعة» التى أورثت الفساد تدريجياً، والذى لم يكن ظاهراً فى عهد ناصر.
ومن إيجابياتها تطوير السينما والمسرح وغيرهما.. ولكن من سلبياتها الخطيرة تأميم الصحافة وكل المؤسسات الفكرية ووأد حرية الصحافة تماماً، وإيجاد رقيب فى الصحف يمكن أن يشطب على أكبر صحفى أو يمنع أكبر صحفى من الكتابة بأتفه الأسباب.. وما أنيس منصور وغيره الذى منع من الكتابة لمدة عام بإشارة فقط، منا ببعيد.