كتبت قبل أسابيع قليلة ملاحظات من وحى ما أصاب مطار القاهرة الدولى من آفة «وأنا مالى» المصرية الشعبية الفلكلورية، حيث اشتراط البائع على الراكب حيازة قيمة الجريدة بالتمام والكمال، حيث لا مجال للحديث عن الفكة، وإلا فليذهب فى طريقه غير مأسوف عليه مصحوباً بلعنات البائع «اللى مش ناقص صداع». كما كتبت عن الفوضى التى ضربت المطار فى ظل غياب الرقابة ونوم المتابعة وعلبة العشوائية وخفوت الضمير (وفى أقوال أخرى وفاته إكلينيكياً) لدى العاملين الذين لا تربط الكثير منهم بالمكان سوى علاقة سطحية قوامها «حياالله» راتب يتقاضونه آخر الشهر، وهو ما يستوجب أقل جهد فى العمل من باب «على قد فلوسهم» أو من شباك الاتكالية والبلادة و«إياكش تولع»! كما كتبت عن الرحرحة الأمنية والهزلية العشوائية فى شئون التفتيش والمراقبة والمتابعة والتنظيم والخدمة والنظافة. وكتبت أيضاً عن التدنى السلوكى والانهيار الأخلاقى وتحلل الذوق العام الذى ضرب مصر والمصريين فى مقتل، وكيف أن كل ما سبق قد يكون مفهوماً أو خاضعاً للتحليل أو قابلاً للتبرير فيما بيننا كمصريين، حيث نظام فاسد رحل، وآخر إخوانى كبس، ونظام جديد حلّ وما زال فى حيرة من أمره، وقبل الثلاثة ثورة أُنجِزت وأخرى صححت، وكلتاهما اصطدمتا بضيق ذات القدرة على التفعيل. أما وقد كتبت كل ما سبق مراراً وتكراراً من باب الوطنية ومن منطلق التعلق بتلابيب الأمل فى أن يحمل الغد بصيص ضوء، أقول هذه المرة إن القدرة على الضبط والربط فى المطار مسألة إرادة وليست قدرة. بمعنى آخر، تجربتى الأخيرة قبل أيام فى المطار تؤكد أننا قادرون على الارتقاء بمستوى التأمين لينافس مثيله فى أفضل مطارات العالم. ربما يكون ما رأيته من طفرة مؤقتة بناء على تعليمات مشددة سرعان ما تزول وتعود الأمور إلى سابق رحرحتها وسالف فوضويتها وعشوائيتها، لكن ربما أيضاً تكون شَدّة (بفتح الشين) مستمرة، ليس فقط من باب استمرار التهديدات الإرهابية، ولكن من باب أن تأمين المطارات وحركة الركاب بحقائبهم وأماكن وجودهم يفترض أن تكون منظومة مستمرة، غير خاضعة للمواسم أو قابلة للصعود أو معرضة للاندثار أو الركود أو الجمود بحسب مزاج البك أمين الشرطة أو الباشا الضابط. (بالمناسبة يسمون الموظف الحكومى فى بعض الدول المتقدمة «الخادم العام»). تم تفتيش الركاب تفتيشاً دقيقاً دون إخلال بقواعد الذوق واللياقة. خلع الجميع الأحذية والأحزمة والمواد المعدنية. كما تم إخراج الأجهزة الإلكترونية من الحقائب ووضعها فى صوانى بلاستيكية «نظيفة» تماماً كما يجرى فى مطارات العالم المتقدم. وكان هناك من يجول بين طوابير المسافرين متمماً على سير الأمور. وهذا يعنى أننا قادرون لكن نبقى فى أغلب الوقت غير راغبين فى أن نعدل الحال المائل. وإذا كانت التحية واجبة إلى من يقف وراء هذه الصحوة المفاجئة، فإن الإشارة أيضاً لازمة إلى أن سقف توقعاتى أصيب بوعكة شديدة. فقد تصورت أن مطار القاهرة سيكون عامراً بلافتات ورسوم وتنويهات وتذكارات وتذكيرات وترتيبات خاصة بافتتاح قناة السويس الجديدة، لا سيما أن اليوم الكبير صار على الأبواب. لافتة يتيمة تقف وحيدة على باب السوق الحرة فى صالة السفر. مطار القاهرة إحدى فرص مصر الذهبية لتعريف العالم بمشروعها القومى الكبير الذى يثبت للمصريين قبل أن يثبت للعالم أنهم قادرون وراغبون فى آن. أين ذهبت الأفلام الوثائقية عن القناة؟ وماذا حدث للتذكارات التى تحمل شعار أو صور القناة؟ مطار القاهرة واجهة مهمة من واجهات مصر، وإذا كنا نرزح تحت جبال عاتية من المشكلات -أغلبها سلوكى وأخلاقى- فلنبدأ بما يمكن علاجه بقليل من القانون والتنظيم والتخطيط. وليكن ذلك فى مطار القاهرة. كلاكيت.. 17 مرة.