بالصور| احترس.. الأسماك "نافقة"
بائع أسماك: الناس كانت بتقطع نفسها عشان تشترى الكيلو بخمسة جنيه
عميد صيدلة كفر الشيخ الأسبق: تناول أسماك ميتة كارثة صحية وشكاوى أبناء المحافظة من تسمم الأغذية ليست جديدة
حالة من الغضب سيطرت على مجموعة من أصحاب الأقفاص السمكية الموجودة فى مجرى النيل المار بعدد من القرى والعزب التابعة لمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ بعد فتح هيئة الرى بالمحافظة قناطر مطوبس لتفريغ كميات المياه الزائدة بها فى المنطقة التى توجد بها الأقفاص السمكية، الأمر الذى تسبب فى نفوق كميات كبيرة من الأسماك داخل مئات الأقفاص دون إخطار الجهات المسئولة للصيادين قبلها بموعد ضخ المياه، بحجة أن تلك الأقفاص غير مرخصة وليس لوجودها سند قانونى أو رسمى.
وعلى الرغم من تقدير الصيادين لحجم الخسائر بما يقرب من مليون طن من الأسماك، فإن أحداً من المسئولين لم يذهب إلى الأماكن المتضررة ولم يستمع إلى شكواهم، ما نتج عنه قيام عدد من تجار السوق السوداء بمدينة رشيد باستغلال طفو الأسماك حديثة النفوق على شاطئ البحر وقاموا بجمعها وبيع صغير الحجم منها فى أسواق السمك بتلك القرى بسعر خمسة جنيهات للكيلو بدلاً من سعره الأصلى الذى يصل إلى 60 جنيهاً، وتجميد الكبير منه وتجهيزه لبيعه خارج المحافظة مع المحلات ومنافذ البيع المتعاقدين معهم، طبقاً لما ذكره شهود العيان.
«تجار السوق السودة فى رشيد استغلوا موت السمك وخراب بيوت الصيادين ولموا السمك الميت من على وش الميه وخزنوه علشان بعد فترة يسفّروه يتباع فى القاهرة والسويس والإسماعيلية والإسكندرية على إنه سمك سليم وطازة وحى وبأسعار غالية علشان محدش يكتشفه»، يتحدث أحمد جودة رئيس المجلس الأعلى للزراعة والرى وصاحب أقفاص سمكية بمركز مطوبس التابع لمحافظة كفر الشيخ، ويضيف «جودة»: «التجار استغلوا الموقف واشتروا من الصيادين كل ما يوجد داخل أقفاصهم السمكية من سمك ميت بسعر 5 جنيهات لكيلو السمك البورى وقاموا ببيعه للمحلات خارج محافظة كفر الشيخ بسعر 60 جنيهاً للكيلو على اعتباره سمك تصدير فرز أول، بالإضافة لقيام بعض الصيادين ببيعه للأهالى فى نفس المنطقة المتضررة بسعر 10 جنيهات للكيلو دون اعتراض الأهالى أو النظر لأضراره، لأنهم محرومين منه وما يقدروش يشتروه غير وهو ميت، بيفضل موجود قدام عينيهم طول السنة وما فيش حد فيهم بيقدر يشترى سمكة واحدة علشان سوء ظروفهم المعيشية، فموته يُعتبر فرصة لهم إنهم ياكلوا ويتبسطوا».
السماح بعودة زراعة الأرز فى الأراضى الزراعية التابعة لمحافظة كفر الشيخ ووقف استيراد نظيره الأمريكى هو الحل الأمثل من وجهة نظر «جودة»، لأنه سوف يتمكن من استيعاب كميات المياه الزائدة التى تضطر الجهات المسئولة لفتحها على أقفاص السمك وقتل ملايين الأطنان من ناحية، كما أنه سوف يساهم فى تربية أنواع جديدة من الأسماك التى تتغذى عليه بشكل رئيسى، وبذلك تُنهى الحكومة أكبر الأزمات التى تعرقل صيادى أكبر محافظة لإنتاج الأسماك فى مصر.
ارتفاع منسوب المياه المحملة بمخلفات مصانع الزيوت والصابون والأصباغ التى تنتشر على جانبى نهر النيل فى محافظات البحيرة وكفر الشيخ والإسكندرية دفع مسئولى الرى بمحافظة كفر الشيخ لفتح قناطر مطوبس خوفاً من تأثرها بالمياه وحدوث شروخ بها أو تحطمها، الأمر الذى تسبب فى نفوق ما يقرب من مليون طن من أجود أنواع السمك البورى والدوبار داخل الأقفاص السمكية فى فرع رشيد، والتى كان يتم تجهيزها للتصدير إلى دول الخليج «السعودية والإمارات والكويت»، طبقاً لما ذكره أصحاب الأقفاص السمكية الذين أكدوا تضرر 9 عزب وقرى تابعة لمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ وهى «بيانة، العالى، منية المرشد، برنبال، الكشايكة، معدية مهدى، النجارين، الصفران، جزيرة الفرس» على امتداد 20 كيلومتراً بطول النهر، دون حدوث أضرار للأقفاص السمكية الموجودة أسفل كوبرى رشيد العلوى بسبب بعدها عن بوابات القناطر.[FirstQuote]
يقول أحمد نصار، نقيب الصيادين وأحد شهود العيان، إن أزمة نفوق الأسماك فى منطقة مطوبس تتكرر كل عام فى شهر أكتوبر، وهو موعد فتح القناطر واختلاط المياه العذبة بالمالحة، ما يصيب الأسماك بحالة اختناق ونفوق، لكنها فاجأت الصيادين هذا العام بمجيئها قبل موعدها بشهرين، والأسماك لا تزال داخل الأقفاص فى أطوار التربية النهائية التى تسبق عملية البيع، الأمر الذى تسبب فى نفوق كميات كبيرة منها، مما دفع بعض الصيادين لبيعها، وهى فى مرحلة الاختناق وبعد موتها، للأهالى داخل المحافظة وخارجها بعد تجميدها وتجهيزها مثلما يحدث كل عام لتعويض خسائرهم.
وأضاف نقيب الصيادين أن أزمات الأقفاص السمكية وأصحابها لا تنتهى طوال العام، بدءاً بنفوقها بسبب اختلاط المياه العذبة بأخرى مالحة، مروراً بالمشاجرات التى يقوم بها ملاك تلك الأقفاص مع صيادى المراكب ومنعهم من الصيد فى مجرى النيل الذى يوجدون فيه بحجة تسبب المراكب فى تحطيم الأقفاص وهروب السمك منها، انتهاء ببيع تلك الأسماك النافقة فى الأسواق على أنها سليمة وبنفس سعر الأسماك الحية.
«اشتريت 2 كيلو وربع بورى من على طبلية الميزان بـ25 جنيه بدلاً من 140 جنيه، ولو كان معايا فلوس كنت اشتريت أكتر عشان العيال فى البيت، دى فرصة مش بتتكرر كتير غير مرة واحدة فى السنة، وبنفضل نستناها عشان نشمت فى الصيادين الجشعين اللى بيحرمونا من السمك اللى شايفينه بعينينا طول الليل والنهار»، لم تمنع حالة الفزع الشديدة التى ضربت منطقة عزبة منية المرشد بسبب نفوق الأسماك داخل الأقفاص السمكية ماجد مصطفى، موظف إدارى بالتربية والتعليم، من شراء أسماك يعلم أنها نافقة، حيث يرى أنها لن تسبب له ولا لعائلته أى ضرر لأنها ماتت مختنقة نتيجة اختلاط مياه عذبة مع أخرى مالحة، وليس لتناولها سموماً أو مبيدات، وهو ما يشبه، من وجهة نظره، ما يحدث فى غالبية الأسماك التى تموت أثناء نقلها من المزارع السمكية والمصايد من محافظة إلى أخرى، حيث يتم تجميدها وبيعها للأهالى دون حدوث أى ضجة أو تحذيرات صحية، بالإضافة لتجربته تناول السمك بنفس حالته فى السنوات الماضية دون أن يعانى بعده من مشكلات صحية.
يضيف الرجل الأربعينى: «صحينا من النوم لقينا فيه مهرجان فى ميدان موقف العربيات العمومى وبالتحديد فى حلقة السمك، والصيادين واقفين يبيعوا السمك بربع سعره، والناس واقفة تشترى وتحول على بيوتها، عرفت وقتها إن خنقة السمك اللى بتتكرر كل سنة حصلت السنة دى، فدخلت وسط الناس عشان اشترى بكل الفلوس اللى فى جيبى، وبعدين روحت البيت حطيت السمك فى فريزر التلاجة، وبعد 3 ساعات رجعت الميدان لقيت السمك كله اتباع والأهالى راحوا على البحر عشان يصطادوا السمك الميت اللى طافى فوق الميه». يقول الأستاذ الدكتور نبيل محيى عبدالحميد، أستاذ بحوث الأورام والعميد السابق لكلية الصيدلة بجامعة كفر الشيخ، إن أسماك محافظة كفر الشيخ تمثل ما بين 40 و60% من حجم إنتاج الأسماك فى مصر، إضافة إلى أنها تُعتبر مصدر الدخل الوحيد لمعظم أبناء المحافظة الذين يعملون بمهنة الصيد دون غيرها.[SecondQuote]
وأضاف: «تصنيع الأسماك التى تُترك حتى الموت يستلزم جواً يتوافر فيه شروط أساسية بما يتلاءم مع الصحة ويحافظ على الأسماك من التلوث سواء البكتيرى، والفطرى، والبروتوزوا (مثل الأميبا) وحتى التلوث الكيميائى بالمعادن الثقيلة، ثم يتم التعليب أو التجميد أو التصنيع والتعليب بعد التصنيع، وإضافة مكسبات الطعم والرائحة، إضافة إلى المواد الحافظة المسموح بها فى الحدود المسموح بهـــا عالمياً، ولكن لا يعنى ذلك أن تباع الأسماك ميتة وغير حية (باستثناء القرموط)، أو أن تُجمع ميتة من المصادر ويتم تجميدها أو تصنيعها أو تداولها للاستعمال البشرى على أى نحو، وهنا يمكن فقط استخدامها لإنتاج مركزات بروتينية بعد معاملتها كيميائياً أو بطريقة تحفظها من تلويث الأعلاف، وليس مقبولاً أبداً بيعها للاستهلاك الآدمى بعد جمعها ميتة لأن تجميدها يخفى معالم موتها تماماً، وهذا نوع من الغش يعاقب عليه القانون، ويعرض الإنسان للمرض، ويتسبب فى كارثة». وأشار «عبدالحميد» إلى أن الأسماك غنية بالمعادن وبالبروتين سهل الفائدة، وفى حالة تركها ميتة فى بيئة غير مناسبة، تتحول لبيئة خصبة لحضانة الميكروبات المختلفة وبويضات الحشرات المختلفة، بل تنمو كثير من البكتريا الهوائية واللاهوائية، وأخطرها على صحة الإنسان البوتيوليزم التى تسبب ما يُعرف بالتسمم الغذائى، وهى الشكوى المتكررة لغالبية أبناء مركز مطوبس، والتى قال عبدالحميد إنه رصدها بنفسه أكثر من مرة، وبعد إجراء التحاليل للمرضى وسحب عينات منهم يتبين تناولهم لأسماك نافقة لا تصلح للاستهلاك الآدمى.
مستطيلات خشبية متوسطة الحجم ترتص على براميل بلاستيكية زرقاء اللون، تحيط بغرفة خشبية صغيرة مخصصة لحارس القفص، يرتكن إليها قارب خشبى صغير الحجم يحوى شباك صيد.. «بقالى سنتين ونص مستنى قطفة السمك اللى شغال عليها أنا وعيالى، باحسب الأيام بالساعة عشان أبيع السمك وأسد الديون اللى عليا وربنا يرزقنا بحسنة ناكل ونشرب منها أنا وعيالى، وبعد ما السمك مات وطفا على وش الميه، مفيش قدامى أنا وعيالى غير الجوع والسجن»، يقول الحاج رزق، أحد الصيادين بمدينة رشيد، ويضيف أنه استدان مبلغ 17 ألف جنيه من أحد تجار الأسماك فى المدينة لشراء زريعة سمك وتربيتها فى أقفاص، بالإضافة لاستدانته مبلغ 6 آلاف جنيه أخرى من أصحاب مصانع الأعلاف حتى يتمكن من الإنفاق على أكل السمك طوال مدة تربيته، الأمر الذى قد يؤدى به للسجن خلال الأيام المقبلة فى حالة تقديم الدائنين للشيكات التى تحمل توقيعه.
ثلاثة أبناء للرجل الخمسينى كانوا يعملون على مراكب الصيد التى تسافر إلى ليبيا قبل منع السلطات المصرية لتلك الرحلات بسبب تكرار حوادث اختطافهم من قبَل جماعات مسلحة، تناوبوا أعمال الحراسة والرعاية على قفصى أسماك طوال العامين الماضيين، سوف يقبلون على ارتكاب الجرائم رغبة فى السجن الذى بات أملهم الوحيد لضمان «لقمتهم» بداخله، على حد تعبير والدهم، حيث يقول: «المياه المسممة قتلت الأسماك الموجودة داخل الأقفاص وخارجها، وهو ما يعنى أننا لن نتمكن من الصيد بالقوارب فى البحر لانعدام وجود أسماك بداخله، ده غير إننا ما لحقناش ننقذ ولا سمكة وما عرفناش نعمل زى بعض الصيادين اللى باعوا كميات كبيرة من سمكهم وهو لسه فى مرحلة الخنقة ولموا أى فلوس تنفعهم، قبل ما الأهالى ييجوا يلموها من على وش الميه وياخدوها». [ThirdQuote]
لم يختلف الوضع عند بلال محمد، صياد، عن سابقه، حيث اقترض مبلغاً مالياً من تاجر أسماك آخر برشيد لشراء زريعة سمك وتربيتها فى الأقفاص، بديلاً عن التى ماتت فى العام الماضى بعد رعايته لها لمدة عام، حتى يتمكن من سداد ديونه التى تراكمت عليه نتيجة تعرض أسماكه للنفوق عامين متتاليين فى نفس الموعد، يقول: «بقالى سنتين السمك بتاعى بيموت قبل قطفه بشهرين تلاتة، كل مرة ببقى واخد فلوس من تاجر وشغال بالمقاومة، ده غير إنى بصطاد طول النهار فى النيل علشان أجيب تمن أكل اللى بربيه فى القفص ومصاريف عيالى»، وفى المرة الثالثة التى حدثت منذ أيام تمكن من إنقاذ كمية صغيرة من السمك قبل نفوقه الكامل، ولكنه فوجئ بوجود كميات كبيرة من «الميتة» على الموازين فى حلقة السمك يُقبل على شرائها الأهالى، الأمر الذى تسبب فى بيعه لأسماكه بسعر قليل لا يساوى تكلفة رعايته لأقفاصه لمدة شهر واحد، على حد تعبيره. يمكث الشاب الثلاثينى طوال يومه داخل غرفة صغيرة أنشأها من الخشب بجوار قفص السمك الذى يمتلكه وسط مياه النيل، هرباً من ملاحقة الأمن له، لصدور عدة أحكام ضده فى قضايا شيكات بدون رصيد، وقّعها لتجار أسماك من مدينة رشيد ولم يتمكن من سدادها بسبب نفوق أسماكه قبل بيعها، لذا فهو يرى أنه تلك المرة لن يتمكن من الوقوف على قدمه مرة أخرى، وليس لديه استعداد للبدء من جديد بسبب تكاثر ديونه. أسر كاملة تعيش على ريع 5 أقفاص سمكية، يشرف عليها الجد حسين الصيفى، الذى ورث مهنة الصيد عن والده، أجبر أبناءه الستة وأحفاده على عدم السفر للعمل فى المراكب المتجهة إلى ليبيا خوفاً عليهم وعلى أبنائهم الصغار، منذ قرار الحكومة بوقف تلك الرحلات، وعلى الرغم من ذلك تعرضت أسماكه للنفوق الكامل للسنة الثالثة على التوالى، مما تسبب فى زيادة ديون العائلة، وتهديد كافة أبنائها بالسجن نتيجة توقيعهم شيكات على بياض، ولم يتمكنوا من سدادها.
«عيالى مش طايقين يبصوا فى وشى، وسابوا البيت والنهر ومشيوا، وكل ما أكلم عيل منهم يقول لى انت السبب فى ربطتنا جنب شوية السمك طول السنة، وفى الآخر جات شوية الميه موتتهم من غير ما ناخد من وراهم ولا أبيض ولا أسود»، يقول الرجل السبعينى إن الصيادين لم يبيعوا أسماكهم النافقة، لأن «مفيش حد هيبيع جثة ابنه، الناس من كتر الحزن سابت المكان ومشيت ومارجعتش غير بعد يوم ولا اتنين»، ولكن غالبية أبناء المنطقة من أصحاب الدخول المحدودة والفقراء، بمجرد وصول نبأ «الخنقة» سارعوا بركوب القوارب واصطياد الأسماك قبل موتها بلحظات بسبب قناعتهم بعدم وجود ضرر من أكل الأسماك الميتة، بالإضافة لقيام بعض تجار الأسماك من معدومى الضمير بجمع أكبر كمية من تلك الأسماك ونقلها على الفور إلى محلاتهم فى مدينة رشيد وتجهيزها للتصدير، بعد أن جمعوا كل الكميات المعروضة فى حلقات السمك ونقلوها إلى محلاتهم أيضاً.