أؤمن بعدد من القناعات التى يؤكدها التاريخ وأحداثه، ولذا لا يعنينى الخبر دوماً، ولكن يعنينى ما وراءه من معطيات تمنحنا الرؤية والقدرة على فهم الحدث. ولذا تبقى بعض الأحداث الأخيرة فى المنطقة مجرد معطيات علينا قراءتها بهدوء لنعلم ما علينا استيعابه.
دعونا نبدأ من الاتفاق النووى بين إيران من جانب والغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر، والذى تم التوقيع عليه يوم الثلاثاء الماضى. وهو اتفاق لا يمنح إيران الفرصة لتخفيف العقوبات التجارية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووى وحسب، ولكنه يمنحها فرصة استراتيجية لتكون قوة إقليمية مؤثرة فى الخريطة السياسية والعسكرية فى السنوات المقبلة، بدعم أمريكى أوروبى كامل، رغم ما تضمّنه الاتفاق من فرض قيود لفترة زمنية محدودة بشأن خطط إيران النووية، فالاتفاق يمنح إيران حق الحصول على مفاعلات نووية خاصة بها، وحق تخصيب اليورانيوم فى المستقبل، ويمنح إيران حق التصريح للمفتشين الدوليين لدخول منشآتها النووية خلال 24 يوماً من تقديم الطلب، وهو وقت كاف لإخفاء أى شىء، ويمنح مجلس الأمن حق معاقبتها إن أخلّت بالتزاماتها عبر إعادة فرض العقوبات. إلا أن ذلك لا يُعد تقييداً كبيراً على إيران حسبما نُشر فى مقال «روبرت ستالوف» بجريدة «نيويورك ديلى نيوز» حين قال: «إن الصفقة مع إيران تشمل أيضاً التراجع إلى حد كبير عن جميع العقوبات المتعلقة بالشأن النووى، سواء تلك التى فرضتها الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبى أو الولايات المتحدة. ويشمل ذلك جميع العقوبات فى مجالات الطاقة والنقل والعقوبات المالية والتجارية. كما يتضمن أسماء الأشخاص والشركات الذين سوف يتم (رفع التجميد) عن أصولهم، بالإضافة إلى رفع الحظر المفروض على الأسلحة التقليدية على إيران بعد خمس سنوات، ورفع القيود المفروضة على تسليم مكونات الصواريخ الباليستية إلى إيران بعد ثمان سنوات».
ماذا يعنى كل ما سبق؟ إيران قوة تستعيد مركزها فى مقدمة «اللعبة الأمريكية» لتفتيت المنطقة وفق حروب لا تنتهى ترفع راية الدين زوراً. وهى ذات اللعبة التى بدأتها أمريكا بإيصال الخمينى وحكم الملالى لسدة الحكم فى إيران بعد الثورة الإسلامية 1979. لتبدأ من يومها حروب الوكالة بين إيران «الشيعية» والسعودية «السنية».
إلى أى شىء يقودنا هذا الاتفاق؟ يقودنا إلى أحداث أخرى فى المملكة السعودية التى آمنت منذ تأسيس عرشها بأن أمانها فى يد الغرب، ووقّعت مع أمريكا بصفتها الدولة الأقوى فى الأوبك عام 1974 -أى بعد عام واحد على حرب أكتوبر 1973 واستخدام البترول العربى كسلاح رئيسى فيها- اتفاقية «البترودولار» التى ربطت تصدير البترول العالمى بالدولار الأمريكى ومنحت الولايات المتحدة صك حماية عملتها من أى تذبذبات اقتصادية يمر بها العالم. ليس هذا فحسب، بل كانت المنفذ الاستراتيجى لسياسات أمريكا فى المنطقة والممول الأول لها، ظناً منها أن فى هذا حماية لمصالحها. لطالما ظلت إيران هى العدو الأول للغرب -حتى ولو عداءً صورياً أمام الكاميرات- ولكن الاتفاق الأخير أعاد إيران إلى قلب الصورة، فلم تعد العدو بل الحليف، فماذا عليها أن تفعل؟ هذا ما رأيناه على الشاشات من أخبار، زيارة خالد مشعل للرياض بعد انقطاع لعلاقة بين حماس والسعودية لمدة 4 سنوات، وتقارب تعلن فيه المملكة صراحة عن فتح الباب للإخوان ليس فى فلسطين وحسب، ولكن فى سوريا واليمن وليبيا وتونس وتضغط ليكون فى مصر، وتلك هى المشكلة.
فمصر لن تقبل بعودة الإخوان للصورة، ومصر تدرك أنها قلب الحدث، لا فيما يتعلق بالعرب وحسب، ولكن فيما يتعلق بتنظيم الإخوان أيضاً. نعم ربما يكون للإخوان وجود فى 72 دولة ولكن تظل مصر هى نقطة الارتكاز لهم للأسف. ومن هنا كانت أهمية أن ندرك مصالحنا وأن يكون الاعتماد على أنفسنا، فمن بيده المنح بيده المنع. ومن هنا ينطلق صوتنا كعادتنا من ثوابت سياستنا فى اليمن وسوريا ومع العالم.