قادتنى المصادفة لركوب تاكسى كان قائده شاباً يبدو فى نهاية العشرينات من عمره. كنت أتحدث فى هاتفى فى محاولة منى لنقل صوت أهالى بولاق أبوالعلا، الذين أضيروا من تدمير منازلهم بعد تفجير يوم السبت الماضى أمام القنصلية الإيطالية. وما إن أنهيت المحادثة حتى بادرنى بسؤالى عن مهنتى، فأخبرته بأننى صحفية وكاتبة. فوجدته يحكى لى عن قصته لعلنى أستطيع نقل صوته ومساعدته. قال لى إنه قضى فترة تجنيده فى العريش لمدة ثلاث سنوات بدأت عام 2004، تعلم فيها الكثير وتحمل كل ألوان التدريب لا على السلاح وحسب، ولكن على كيفية تحمل ظروف القتال والحياة مهما كانت. وأن تلك السنوات الثلاث هى التى صنعت رجولته التى يفتخر بها وتعينه على متاعب المعيشة حتى يومنا هذا. وقال لى إنه يتألم ويشعر بالعجز مع توالى الأحداث الأخيرة فى سيناء وهو ما دفعه لمحادثة زميل دفعته فى التجنيد، والذى يعيش فى أسوان ليتفقا منذ شهرين على السفر إلى الكتيبة التى خدما بها فى العريش ليطلبا من قائدها إعادتهما للخدمة للمشاركة فى محاربة الإرهابيين فى سيناء. سألته عما إذا كان قد جاءه استدعاء من القوات المسلحة؟ فنفى ذلك مؤكداً أنهما ذهبا من تلقاء أنفسهما ومعهما كل ما يثبت من أوراق قضاء خدمتهما فى تلك الكتيبة. ولكن القائد رفض طلبهما، لأنه ليست لديه أوامر بذلك وأنه لا يستطيع تحمل مسئوليتهما وهما ليسا على قيد الخدمة العسكرية. أخبرنى «على محمد» -وهذا هو اسمه- أنهما ترجيا القائد كثيراً ليقبل بهما لأنهما خبرة ومتدربان على القيادة فى الصحراء وعلى أعمال القتال وأنهما لا يستطيعان العيش فى الحياة بالشكل المعتاد بينما الجيش فى حاجة لهما، ولكن القائد فى النهاية استسلم لقواعد العسكرية وطلب منهما الرجوع، مع شكرهما وإخبارهما بأنهما ليسا الوحيدين ممن فعل ذلك. قلت لـ«على» محاولة مواساته وقد بدا عليه التأثر أن عليه أن يعذر القائد فهو ينفذ الأوامر، فأجابنى بأنه يعلم ذلك، ولكنه لا يستطيع العمل والمكوث فى القاهرة بينما يسمع تلك الأخبار التى يريد أن يكون جزءاً منها. خاتماً حديثه بالقول: «اللى ما دخلش الجيش المصرى يا أستاذة ما يعرفش الإحساس اللى بأكلمك عنه».
تركت «على» وأنا أفكر فى كلماته شاردة بعد أن منحنى الثقة فيما أحدث به وعنه حينما يطلب منى تحليل أى مشهد سياسى فى مصر وعناصر القوة فيها. فأستند دوماً إلى ثقافة شعب وإيمانه بقدرية العلاقة بينه وبين تراب وطن يدرك بفطرته التى تجرى فى دمائه حدود أمنه القومى ولو لم يدركها بكافة تفاصيلها. نعم وفكر معى بهدوء.. ما الذى يجبر شاباً أنهى خدمته العسكرية فى العريش منذ ثمانى سنوات على العودة إلى معسكره طالباً من قائده إعادته للخدمة واستخدامه مرة أخرى فى حربه على الإرهابيين؟ ما الذى يدفع شاباً فى مقتبل عمره إلى ترك عمله وأسرته للسفر لمدة سبع ساعات أو أكثر لعرض نفسه على قوات جيشه إلا الإيمان بهذا الجيش؟ تركت «على» وأنا أدرك أنه ومن مثله سر تلك الأرض وسر قوتها وجبروتها وطغيانها على كل ظالم أو معتدٍ. تركت «على» متيقنة أن نخبتنا التى تتحدث كل يوم عن «الشعب المصرى» لا تعرف شيئاً سوى قوانين تعميم أفكارها والاستهانة بقدرات العامة ممن هم أقل منها والتعالى على مبادئ وقيم يتمسك بها هؤلاء الطيبون الذين لا يستكثرون على وطنهم الغالى وإن كانت الروح.