كلاهما خائن: مَن يتعاطف (مجرد تعاطف) مع عدو وطنه، نكاية فى سلطة يعاديها، ومن يصم المخالفين لبعض توجهات السلطة بالخيانة والطابور الخامس والمأجورين.. إلى آخر هذا القاموس المنحط الذى تطفح به بعض الفضائيات والأقلام فى وجه من يُبدى اختلافاً (مجرد اختلاف) مع السلطة.. كلاهما خائن.. الأول خائن صريح، والثانى خائن لمصالح بلده، مستتراً خلف نفاقه.. ومن نكد الدنيا علينا أننا عايشنا نماذج من الخيانتين على مدى الأسبوع الماضى.. ويبدو أننا مضطرون للتذكير بإحدى البديهيات.. إن البون شاسع بين أن تعارض وأن تخون.
عندما حدث العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956 كان عدة مئات من المصريين فى خصومة مع النظام المصرى، جراء ما أصابهم من قانون الإصلاح الزراعى وقوانين التطهير، (لا أتحدث عن الخطأ والصواب فى ذلك) وفيما عدا قلة محدودة جداً رحّبت بالعدوان ووصمت نفسها بالخيانة إلى يوم الدين، فإن غالبية المتضررين لم يفكروا (مجرد تفكير) فى أن يداووا جروحهم بتعميق جرح الوطن.. ولم نسمع عن أحد حرّض على جيش بلده، ولم يكن ذلك وارداً أصلاً.
قبل 1967، ورغم التأييد الجارف لـ«عبدالناصر»، كان هناك من ينتقد ممارسات قلة من العسكريين من مجموعة المشير، تمددوا فى النشاط المدنى، فضلاً عن انتقادات طبيعية لا تسلم منها أى إدارة لأى دولة.. ولكن عندما حدثت النكسة، انصهر هؤلاء وأولئك فى نهر واحد تدفّق بامتداد الوطن يدافع عن مصر لأنها الأبقى من أى نظام.
شبيه بذلك ما رواه سعيد مكاوى، نقلاً عن سوزان طه حسين، كيف أن أميرة من الأسرة القيصرية الروسية التى أعدم الشيوعيون كل أفرادها وكانت من القليلين الذين نجوا واستقر بها المقام فى مصر، انتفضت غاضبة فى وجه من جاء يبشرها بدخول الجيش الألمانى إلى روسيا ليقضى على الشيوعيين، وقالت (الألمان غزوا روسيا المقدّسة؟ فلتتكسر أسنانهم إذن، ولتحل عليهم اللعنة)..
فى أواخر الثمانينات كان الخلاف شديداً بين المعارضة والحكومة الكويتية، حتى إن الشيخ جابر أمير البلاد قام بحل مجلس الأمة، ولم يدعُ إلى انتخابات جديدة (خلافاً للدستور).. لكن لما غزا «صدام» الكويت لم يجد معارضاً كويتياً واحداً يؤيده فيما فعل، واصطف الجميع مع الشيخ جابر فى مؤتمر الطائف الشهير.. كانت هناك رموز وقامات مثل «السعدون والخطيب والربعى» وغيرهم، لديهم من البصيرة ما يميزون به بين المعارضة والخيانة.. قل الشىء نفسه عن أحزاب المحافظين والعمال والأحرار فى بريطانيا عشية الهجوم النازى عليها.. وأسقطه على أى أمة أخرى حباها الله فى ساعة الخطر بمن يضع الوطن فوق كل اعتبار.
.. لا مشكلة فى أن تعارض «السيسى» فهو بشر يخطئ ويصيب.. ولا خير فينا إن لم نجهر برفض الخطأ (خوفاً أو نفاقاً).. ولا خير فيه إن ضاق صدره بذلك.. الاختلاف مع «السيسى» معارضة واجبة (دعكم من الدببة التى تحرم ذلك)، لكن الاختلاف مع مصر خيانة.. الآراء وجهات نظر، لكن الخيانة ليست كذلك.. لا قدسية لـ«السيسى» ولا لأى حاكم سبقه أو سيتلوه.. لكن الجيش مقدس.. ومصر أبقى من كل حكامها ومعارضيها.. واسلمى يا مصر.