- فى هذا المكان كتبت مقالاً يوم ٦ مايو بعنوان «هل حانت ساعة الحسم فى سوريا؟»، أشرت فيه إلى معلومة تلقى ثلاثة من قيادات جبهة النصرة العلاج فى المستشفيات الإسرائيلية. هذه المعلومة التى توافرت للمنظمة العربية لحقوق الإنسان منذ نحو عام استغرقت منها وقتاً طويلاً لتدقيقها وتوثيقها نظراً لخطورتها، وذلك قبل أن ترفع عنها الغطاء. الآن لم تعد تعوزنا الأدلة والإثباتات، ففى شهر يونيو الماضى وفيما كانت سيارة عسكرية إسرائيلية تقل بعض الإرهابيين من جرحى الحرب فى سوريا لتلقى العلاج فى المستشفيات الإسرائيلية قام مواطنون دروز يسكنون إحدى قرى الجليل الأعلى برشق السيارة بالحجارة. لكن الأخطر فى الشهر نفسه أن القناة الثانية الإسرائيلية بثت تقريراً بعنوان «يعبرون الحدود» أذاعته قناة «الميادين»، والتقرير هو عبارة عن شهادات بعض هؤلاء الجرحى الذين تعالجهم إسرائيل، وفيه حقائق مذهلة. يدمى القلب حين يشاهد أحدهم وقد أخفيت ملامحه يقول: «قالوا لى إسرائيل عدوة سوريا جيت لهون لقيت أحسن معاملة»، ويتكلم آخر بالعبرية عدة جمل فيبدى معد التقرير إعجابه قائلاً: «سورى بيحكى عبرى.. منيح»، ثم يبلغ الاستفزاز مداه حين يطرح هذا الأخير على أحد الجرحى سؤالاً هو من تقتل: الشيعى أم اليهودى؟ فيرد: الشيعى، الدرزى أم اليهودى؟ فيرد: الدرزى، وهنا يختم معد التقرير البرنامج قائلاً: يبدو أن إسرائيل عرفت كيف تحول عدو الأمس إلى صديق!
- أدعو إلى أن يلف هذا البرنامج الفضيحة الذى يحيطه تجاهل رسمى عربى كل القنوات الفضائية العربية، أدعو إلى أن يتخلل نشرات الأخبار ويذاع مرة ومرات لعله يمثل صفعة على وجوه كل من يصدقون (هل هم حقاً يصدقون؟) أن ما يجرى فى سوريا وليبيا والعراق وفى سيناء مصر عمل من أعمال الجهاد. أدعو إلى أن نتوقف ملياً أمام الكلمات المفتاحية التالية فى تقرير القناة الثانية الإسرائيلية: شيعى ودرزى وسنى من درعا، فهكذا ترانا إسرائيل مجموعة متنافرة من الأديان والمذاهب، وحبذا لو تكون لكل مجموعة دولتها، فالقضية يراد لها ألا تكون مع الصهيونية السياسية لكن بين تلك الديانات والمذاهب. الحلم القديم بتفكيك الدول العربية يسير بخطى حثيثة بعد أن وجدت الدولة العبرية بين أبناء الوطن العربى من يتطوعون للتنفيذ، فمن الطبيعى أن تسلحهم وتمولهم ثم تعود وتداويهم. يحتاج المرء إلى ذاكرة لا ترقى حتى إلى ذاكرة السمك لينسى أن الطيران الإسرائيلى قصف سيارات الإسعاف اللبنانية والفلسطينية فى حروب ٢٠٠٦ و٢٠٠٨ - ٢٠٠٩ و٢٠١٤، ويتذكر فقط أن سيارات الإسعاف الإسرائيلية تنقل إرهابيى سوريا إلى المستشفيات الإسرائيلية رفقاً بهم من براميل «بشار» وغارات التحالف. لكن الاستدراك واجب فإسرائيل لم تعد تهتم حتى بالتجمل وتبرير علاج إرهابيى النصرة بالاعتبارات الإنسانية، فها هو زير الدفاع الإسرائيلى موشى يعالون، نقلاً عن صحيفة «الأهرام» يوم الاثنين ٦ يوليو، يتبجح بالقول «إنه ليس سراً أن الجهات المرابطة على الجدار الأمنى تتلقى مساعدات إنسانية من قبَل إسرائيل مثل العلاج الطبى، واشترطنا ألا تسمح هذه الجهات باقتراب تنظيمات إرهابية إلى الجدار». هذا إذن تأويل ما لم نسطع عليه صبراً نحن الذين لم نكف عن السؤال لماذا يجاهد الإرهابيون دولهم ولا يحفلون بتحريرها، ولماذا تتوجه مدافعهم إلى صدور جيوشهم (بل وحتى عامة الناس) ولا تطال الجيش الإسرائيلى الذى يحتل أراضى يفترض أنها ضمن حدود «دولة الخلافة»؟! إنها إذن صفقة محرمة تلك التى أُبرمت بين إسرائيل وبين هؤلاء الإرهابيين، عقد أمان غير مكتوب يلتزم فيه كل طرف بألا تطول نيرانه الطرف الآخر وكل ما خلا ذلك مباح. يظن الإرهابيون أنهم يستقوون بإسرائيل فإذا بإسرائيل توظفهم ليس فقط لضمان أمنها وتفكيك دولهم لكن كذلك لكشفهم أمامنا وإعطاء المبرر للنظم التى يحاربونها كى تفتك بهم، فمن ذَا الذى يدافع عن خصم يستظهر بإسرائيل؟ تبيعهم إسرائيل الوهم والأعلام والإعلام وتشترى منهم أنفسهم وأوطانهم، ومع ذلك فإن القصة الرديئة لن ينتصر فيها أحد على المدى المتوسط حتى إسرائيل نفسها فالنار التى تشعلها إسرائيل فى دول المنطقة لا بد أن تمتد إليها ولو بعد حين، وقد رأينا كيف أن الدول الأوروبية التى فتحت أبوابها للإرهابيين من كل صوب أصبحت ضحية لهم، ففى بريطانيا يتكلمون عن أسر بكاملها تتطوع فى صفوف «داعش» ويفقدون أثرها، وفى فرنسا تنفذ العمليات الإرهابية فى قلب العاصمة ببشاعة مفرطة، والولايات المتحدة التى أطلقت المارد من القمقم فى أفغانستان تحاول أن تحبسه مجدداً (أو تتظاهر بذلك) فى العراق وسوريا فيتضخم، ولا يوجد أى مبرر لتصبح إسرائيل استثناءً من القاعدة.
إن هذه المرحلة الحرجة من تطور بلداننا العربية تشهد سباقاً محموماً على إعادة رسم الخرائط وإعادة توزيع الأدوار على الفاعلين، وهى مرحلة يفوق فيها حجم التحدى الذى تواجهه أمتنا العربية كل تحديات المراحل السابقة لأن الفوضى فيها شاملة، وخلط الأوراق على أشده، والحروب النظامية ولّى زمانها، والولاءات التحتية فى أوجها، ولذلك فإن هذا المقال الذى يوضح خلفية المشهد العربى الراهن يمثل بداية لطرح سلسلة من القضايا التى تواجه تطور النظام العربى لأن تلك القضايا هى التى يُراد لنا الالتفات عنها.