يمضى «الصادق المهدى» إلى مقولة مهمة: إنه فى اليوم الذى تصبح فيه الثورة دولة، يتحول الذين فى أيديهم السلطة إلى محافظين، لأنهم يريدون الحفاظ على الأمن والنظام.
وحين كان الثوار يريدون أن يصبحوا حكاماً.. كانوا لا يبالون، ولكن بعد وصولهم للسلطة، سرعان ما يحدث هذا التمييز، ينقسم الثوار أنفسهم ما بين الذين فى أيديهم السلطة.. «المحافظين الجدد»، وما بين الذين لم يدخلوا السلطة.. أى الذين لم يستطيعوا مغادرة ترف الأفكار الثورية.
وهذا يؤدى إلى التناقض بين مَن بأيديهم السلطة، ومَن فاتتهم السلطة فاستمروا مثاليين.
إن الواقع -فى الأصل- يجر الإنسان إلى المحافظة، لذلك نجد أن الأشخاص الأكبر سناً يكونون أكثر محافظة، والأكثر شباباً أكثر مثالية.. هذه طبيعة بشرية.
لذا فى الثقافة العربية.. كلمة شباب فيها معنى الانفلات، كلما شبَّ آب، أى: كلما شب رجع مرة أخرى يشب.. أى أنه متردد فى عملية الشب هذه.. والثورة -بطبيعتها- ترتبط دائماً بنظرة شبابية حتى لو لم يكونوا شباباً.
فالشباب ليس فئة عمرية، بل خصلة نفسية، لذلك ممكن أن تتوافر للإنسان صغير السن أو كبير السن.
■ ■
عاد «الصادق المهدى» ليقول: إن الثورة دائماً تخلق مشكلات بحجم المشكلات التى قامت لحلها، وهذا هو ما يؤدى إلى خلافات بين الثوريين أنفسهم بصورة كبيرة جداً، وأنا لا أعتقد أنه توجد وسيلة لحل هذه الإشكالات، لأنك إذا أردت أن تحل هذه الإشكالات تحول الثورة إلى مؤسسة، ولكن الثورة بذاتها هى خروج على المؤسسة وخلق شىء جديد..!
وهذا هو الأساس فى ضرر الأسلوب الثورى، لأن الأسلوب الإصلاحى والانتقالى يمكن أن تدخله فى مؤسسة.. تعمل برلمان أو آلية انتخابية. وإذا أدخلت الطرح الإصلاحى فى مؤسسة يمكن أن يقبل الرأى والرأى الآخر، ويقبل التعاطى معه.
ولكن الثورة -بطبيعة الحال- تمنع أن تقيم مؤسسة للتعامل مع عملية التغيير، لأن عملية التغيير تأتى من خارج المؤسسة.
وما أراه صواباً فى هذا الصدد.. أن الثورة تبقى ضرورة فى ظروف معينة، لكن إذا أمكن التغيير بوسائل غير ثورية فهذا أفضل.. وفى حالة الثورة الضرورة.. يبقى الإشكال الوحيد هو.. كيف تخرج بسرعة من ذهنية الهدم إلى ذهنية البناء.
■ ■
سألت «الصادق المهدى» عن تصدير الثورة.. قلت: إن بعض الثورات لا تعمل على الانتقال من ذهنية الهدم إلى ذهنية البناء، بل إنها تعمل على تصدير ذهنية الهدم إلى دول ونظم أخرى.. وقد كانت الثورة المهدية ثم المشروع العام للثورات الإسلامية نموذجاً لذلك التفكير فى الثورة الدائمة.. والواسعة!
قال «المهدى»: إن الأمر يتوقف على المسرح، إذا كان المسرح قابلاً لتصدير الثورة وتوحيد العالم الإسلامى.. فليكن، والعكس صحيح.
فحين تتطابق الظروف الموضوعية وتشترك فيما بين الشعوب، يفضل أن تمتد الثورة، إذا كان هناك -مثلاً- مستعمر واحد، فلا مانع من توحيد الثورة ضده.
وفيما يخص الثورة المهدية.. كان ذلك الفكر قائماً، كانت ظروف العالم الإسلامى متشابهة، وكان هناك ركود واستعمار. وقد كتب «عبدالودود شلبى» يقول: إن الثورة المهدية قد جسدت تطلعات أهل القبلة فى ذلك الوقت.
كل أهل القبلة كانوا يريدون الوحدة الإسلامية وتجديد الفكر الإسلامى والتحرر من الاستعمار، وهناك «أحمد العوام» وكان أحد الثوار مع «أحمد عرابى» فى مصر، وقد ألقى القبض عليه ونفى فى أم درمان فى السودان، وكتب «رسالة العوام» وقال فيها علينا أن نؤيد الثورة المهدية، لأنها تلبى طموحاتنا فى العالم الإسلامى.
الشىء نفسه كان يتكلمه «جمال الدين الأفغانى» و«محمد عبده» فى «العروة الوثقى»، كانوا يرحبون بالثورة لأنهم اعتقدوا أنها كانت تلبى طموحات المسلمين فى تلك الفترة، بصرف النظر عن قبول أو عدم قبول المهدية.. الحاصل إذاً أن الظروف الموضوعية هى التى تجيب عن سؤال تصدير الثورة.. أى هل يمكن توسيع الثورة أم لا؟
الجزء الخامس.. الأسبوع المقبل بمشيئة الله
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر