١) كثيراً ما تعرضت للموقف ذاته.. إنه ذلك المريض الذى قرر أنه ينبغى أن يبحث عن علاج فورى لتلك «الكحة» فى الثالثة صباحاً.. لم يمتلك وقتاً للحضور فى وقت مبكر.. فمواعيد المسلسلات المتتابعة قد منعته.. ولكنك ينبغى أن تمتلك وقتاً كافياً له.. حتى وإن فاتك ميعاد السحور وصمت يومك جائعاً.
لن يشكرك فى الأغلب بعد أن تنتهى من الكشف عليه.. بل سيحاول التحرش بك واستفزازك.. إنه يؤمن أنك وغد تجمع الأموال بجشع من المرضى صباحاً.. وتمازح الممرضات بسوقية ليلاً..! إنه يريد أن يملأ الأرض صراخاً لأنك لا تهتم به.. أنت لم تعطه تلك الفرصة ولهذا فهو يتميز غيظاً.
سوف يخرج من الاستقبال وهو يلعنك لسبب لا يعرفه أحد.. وسوف يحكى غداً كيف أنك أهملت فى علاجه..! إنه نفس الوقت الذى يقرصك الجوع فيه لأنك لم تتسحر بسببه.
هناك درجة من الظلم تصبح عندها محاولة الدفاع عن نفسك سخيفة..! لك الله.
الذى ينبغى أن تهتم به هو إجابة عن هذا السؤال: لماذا يكره الناس الأطباء؟!
٢) إنها القصة المكررة.. طبيب الامتياز الشاب الذى يحاول أن يبدو مخضرماً.. يبذل جهداً لا بأس به ليستدر الاحترام من كل من حوله.. إنه ذلك العام الذى توقفت فيه عن كونك طالباً.. ولكنك لم تصل بعد لدرجة أن تكون طبيباً.. ثم تأتى المشاجرة المعتادة.. لم يكن السبب الأساسى هو ذلك الباب المغلق الذى يطلب الطبيب فتحه.. وإنما كانت المشكلة هو أنه يطلب من ذلك الموظف أن يبين له الاحترام الذى يبحث عنه..!
الأمر يسير كأى مشاجرة مصرية أصيلة.. الكثير من السباب والقليل من مد الأيدى.. والأكثر من الذين يحاولون الفصل بينهما..! ولكن الحبكة الدرامية تقتضى أن يذهب ذلك الموظف بعدها إلى نقطة الشرطة بالمستشفى لعمل «محضر» لذلك الطبيب.. فما أن يدخلها حتى يسقط ميتاً..!!!
الأمر لا يحمل مبالغة من أى نوع.. فهذا ما حدث حرفياً.. لقد عاقب ذلك الموظف الطبيب الشاب أقسى عقاب ممكن.. لقد مات وتركه يواجه اتهاماً بقتله بسبب المشاجرة.. اتهاماً وإن خلا من أدلة.. فإنه سوف يؤرق مضجعه لفترة طويلة.. على الأقل أمام نفسه..!!
الطريف فى هذه القصة أن كثيرين تطوعوا بشهادات مزورة أمام النيابة العامة مفادها أن الوفاة قد حدثت بعد ضرب مبرح لذلك الموظف المسكين..! نصف تلك الشهادات كانت تفتقر لركن أساسى.. أن أصحابها لم يكونوا حاضرى الواقعة من الأساس!!.. الكثير من الأخبار الصحفية.. والأكثر من الشامتين.. وهم لا يعرفونه بالمرة!!
هناك سبب ما لكل ذلك بالتأكيد!! هذه الكراهية ليست وليدة اللحظة.. إنهم يهاجمون المهنة نفسها.. يهاجمون شخصية الطبيب لا شخصه.. لماذا؟!
٣) ينظرون إلىّ وهم يتساءلون فى دهشة، فلسبب ما يظن البعض أننى أمتلك الإجابة.
لماذا يكره هذا المجتمع فئة الأطباء؟! الأمر لا يتعلق برفض الحكومة لمشروع الكادر الذى أصبح ذكرى حميمية تتذكرها بصعوبة وأنت تبتسم.. وربما حكيتها لأولادك على سبيل التاريخ.. ولا يتعلق أيضاً بذلك الهجوم الإعلامى علينا كل حين.. فقد اعتدنا عليه.. بل ولا يتعلق أيضاً بتلك المشاجرة التى حدثت..! فهى ليست أول مرة..!
الأمر قد أصبح عاماً.. فالطبيب متهم بالإهمال والجهل والتكبر والجشع طوال الوقت..!! ويمكنك أن تضيف إليها الهمجية وسوء الأدب مؤخراً!!.. لا أعرف السبب تحديداً فى كل تلك الكراهية!.. إنهم يضنون علينا حتى بكلمات الشكر.. يتحسسون الأخطاء وإن كانت غير مقصودة.. لسبب ما يظن الآخرون أننا نسعد بقتل مرضانا.. يتفهمون أى تقصير يحدث من كل الفئات.. ولكنك ينبغى أن تكون معصوماً من الخطأ يا صديقى.. ربما كان بيننا بعض المسيئين بالفعل.. ولكن منذ متى والمجتمع يقيّم فئة بأخطاء الشواذ منها؟! فذلك الجشِع الذى يطلب مبلغاً خرافياً من مريضه لا يقسّم معنا جزءاً من المبلغ الذى يحصل عليه.. وهذا الذى نسى «فوطة» فى بطن تلك السيدة لم يتعمد قتلها بكل تأكيد.. لأنه إن أراد فالأمر كان سيصبح أبسط كثيراً وهى مستسلمة تحت يديه فى غرفة العمليات!!
المثير للسخرية أن معظم شباب الأطباء الذين أعرفهم يمكن أن يتم تصنيفهم من محدودى الدخل.. وقد تقبلوا هذا الأمر على مضض.. ولكن المجتمع لا يقتنع.. سيظل الجميع ينظر إليه علي أنه الشاب الذى فتحت له أبواب الكنوز.. إنها مسألة وقت ليصبح ثرياً متعجرفاً..!
إنهم يكرهون الأطباء.. لقد أصبح الأمر حقيقة لا جدال فيها.. والسؤال الآن ليس هو لماذا؟.. بل السؤال الأهم هو لماذا نعيش نحن فى وطن يكرهنا؟!
4) «ببساطة لأننا لا نكره ذلك الوطن»
كان رده بمثابة دش بارد سقط على رأسى فأغرقنى بالكامل.. لقد أجابنى ببساطة مستنكرة وكأنه يسخر من الفكرة ذاتها.. إنه أحد شباب الأطباء الذى أجابنى على موقع التواصل الاجتماعى الشهير حين سألت ذلك السؤال.
تخيلت الطبيب «على محارب» وهو يجيبنى بحكمة وكأنه أكبر من كل هذا الهراء.. ثم يضيف:
ولا نلقى لمن يكرهنا بالاً إلا حينما يبلغ السيل الزبى وتصل الخصومة إلى حد الفجور، فقد اخترنا ذلك الطريق بكامل إرادتنا حتى وإن كان بعقلية المراهقة المتحمسة التى كانت تظن أنها ستستطيع أن تصلح كل عيب وتتحمل كل عبء فى مقابل رسالة كنا نظنها مقدّرة.
ولأننا حين اخترنا لم يكن هناك باب مغلق أمامنا أو صيد بعيد لا تناله أيدينا لنظل نحمل فى قلوبنا جبالاً من الضغائن على من نالوه.
ولأننا ندرك حقيقتنا وما الذى نفعله حتى وإن تجاهله أو أنكره الآخرون
نعلم أننا بشر لسنا معصومين من الخطأ ولا خارقين للطبيعة لنبنى منظومة مثالية فى وطن غير مثالى.
ولكننا سنظل نمارس عملنا.. لأننا نحب هذا الوطن.