الخبز أم السلاح، الحرية أم الإرهاب، الدولة أم الفوضى، الحرب أم السلام؟ مجموعة من الثنائيات التى تحكم المجتمعات فى مراحل مختلفة من تاريخها، مصر ليست استثناء من هذه الثنائيات، وفى كل مرة تُطرح إحدى هذه الثنائيات أو تفرض نفسها فرضاً، يتبلور عادة اتجاهان رئيسيان كل منهما يناصر أولوية معينة ويراها الضرورة أو الحتمية.
وفى الحوار الحالى حول مشروع قانون مكافحة الإرهاب يوجد من يؤيد إصدار القانون بشكله الراهن، وفى الجانب الآخر هناك من يعترضون على القانون باعتباره سيكون كارثة على الحريات بالدرجة الأولى وسبباً فى انتشار القمع بدرجة ثانية. وبينما تُعد الحكومة وعدد من المستشارين القانونيين فى طليعة الاتجاه الأول، تبرز نقابة الصحفيين المصريين وعدد من السياسيين وناشطى حقوق الإنسان ومنظماتهم فى طليعة الاتجاه الثانى. ويمكن أن نلاحظ أن بينهما اتجاهاً ثالثاً يدعو إلى وجود قانون واضح وقوى لمكافحة الإرهاب الذى استشرى وزادت مخاطره وتهديداته بدرجة عالية، وفى الآن نفسه يؤيد ويدعم إصلاح وتعديل بعض مواد مشروع القانون المطروح بحيث لا يحدث تغول وتقييد على مهنة الصحافة أو التعبير عن الرأى أو الحريات بشكل عام. ويمكن للقارئ أن يعتبر كاتب هذا المقال من أنصار هذا التيار الثالث، باعتباره التيار الأكثر حكمة فى ظل الظروف الحرجة التى تمر بها مصر.
فأولاً: إصدار قانون خاص لمكافحة الإرهاب ليس بدعة مصرية، بل هو ضرورة لجأت إليها العديد من دول العالم التى عانت من هذه الظاهرة البغيضة، فما كان إلا أن أصدرت قانوناً خاصاً يساعد السلطات المعنية على الإجهاض المسبق للأعمال الإرهابية والتعامل السريع مع تداعياتها إن حدثت واقعة إرهابية أو أكثر، فضلاً عن محاسبة الفاعلين وفق إجراءات قانونية لا تتجاوز الحق الطبيعى فى الدفاع وفى الآن نفسه الحفاظ على حق المجتمع فى محاسبة الإرهابيين فى مدى زمنى معقول. وفى اعتقادى أن هذا هو جوهر المطلوب الآن فى مصر وخلاصته إصدار تشريع يؤدى إلى التعامل مع الظاهرة الإرهابية فى إطار دستورى وقانونى يؤكد مقولة دولة القانون من ناحية، ويسهم من ناحية ثانية فى إجهاض الاستعدادات لأعمال أرهابية وفى سرعة المحاسبة، وفى توفير الاطمئنان للمجتمع بأن الدولة ومؤسساتها لا تعمل إلا فى إطار قانونى لا يتجاوز الدستور ومبادئه الحاكمة.
ثانياً: التشريعات القانونية الخاصة بمكافحة الإرهاب وتحديد ماهية الكيانات الإرهابية وكيفية التعامل معها ليست سوى أدوات مكملة لحالة المواجهة الشاملة للظاهرة الإرهابية التى تتطلب بدورها مشاركة وعملاً دؤوباً من كل المؤسسات فى البلاد، فكرياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً، وفى مقدمتها مؤسسات المجتمع المدنى المؤمنة بالدولة المصرية ومواجهة كل الذين يريدون إسقاطها كما هو حادث الآن. وبالتالى فمن الخطأ الشديد الاعتقاد بأن القانون وحده يكفى لمواجهة الظاهرة الإرهابية المتشعبة والممتدة من خارج البلاد إلى داخلها والعكس أيضاً.
ثالثاً: مشروع القانون لمكافحة الإرهاب ليس مقدساً فى حد ذاته، وهو قابل للمراجعة والتعديل شأن أى قانون آخر. ومعضلته الأكبر أن يكون قانوناً قوياً فى مواجهة الإرهاب وذا فاعلية ويوفر للأجهزة المعنية، لاسيما الأمنية والقضائية، مرونة أكبر وحسماً أسرع، وفى الوقت نفسه لا يُحد من عمل الإعلاميين والصحفيين فى تغطية هذه التطورات المتعلقة بالإرهاب أو تحليلها وإلقاء الضوء عليها من زوايا مختلفة. ومن هنا فإن تخوفات العاملين فى المجال الإعلامى تبدو رئيسية بشأن المادة 33 من مشروع القانون التى «تعاقب بالحبس لمدة لا تقل عن سنتين لكل من تعمّد نشر أخبار أو بيانات غير حقيقية عن أى عمليات إرهابية بما يخالف البيانات الرسمية الصادرة عن الجهات المعنية». وهى صياغة بحاجة إلى تفرقة واضحة بين الذين تنطبق عليهم أحكام قانون الكيانات الإرهابية الصادر فى فبراير الماضى ومن ثم ينشرون الأكاذيب والمعلومات المضللة عن عمد لخدمة الأغراض الخاصة بكياناتهم الإرهابية، ومن ثم يخضعون لقانون مكافحة الإرهاب وعقوباته، وبين هؤلاء الذين جوهر عملهم هو نشر الأخبار أياً كانت ما دامت متداولة والتعريف بالتطورات المختلفة للأعمال الإرهابية نفسها. وبذلك يتحقق الأمران معاً، مواجهة الإرهاب والحفاظ على درجة الحرية الإعلامية بل تطويرها لتصبح أداة فعالة أكثر فى مواجهة الإرهاب.
رابعاً: امتداداً لأهمية إعادة صياغة المادة 33 السابق ذكرها، من المهم التذكير بأن الإعلام المصرى الوطنى هو جزء رئيسى من المواجهة مع الإرهاب ومع الأدوات الإعلامية الداعمة له سواء كانت أدوات تنطلق فى الفضاء الإلكترونى أو الفضاء المرئى المقبل عبر الأقمار الاصطناعية، وهنا يتحتم توفير مساحة أكبر له ليمارس دوره فى هذه المواجهة دون قيود أو احتمالات الخضوع لاتهامات غير صحيحة. وأتصور أن نقابة الصحفيين والقائمين على العمل الإعلامى والناشطين فى مجال حقوق الإنسان يمكنهم أن يقدموا صيغة معدلة للمادة 33 وأى مواد أخرى قد تشكل قيداً على الحريات الواردة فى الدستور، لا أن تكون هناك معركة مع القانون ككل كما ظهر من بعض التصريحات المنسوبة لأعضاء فى مجلس إدارة النقابة وبعض ناشطى حقوق الإنسان.
خامساً: التطور الهائل فى مجال الاتصالات الرقمية والإنترنت والذى تستخدمه الجماعات والمنظمات الإرهابية ببراعة وبدعم لا شك فيه من أجهزة استخبارات دول كبرى، يشكل عبئاً على الجميع، الحكومة والسياسيين والمجتمع المدنى بكل فروعه وأنشطته، وكما ظهر فى المواجهة الأخيرة فى سيناء، فقد استخدمت المجموعات الإلكترونية لمنظمات الإرهاب هذا الفضاء الرقمى للتخديم على تطورات المواجهة العسكرية على الأرض وفقاً لخطط موضوعة بدقة من شأنها إثارة البلبلة وإشاعة الروح الإنهزامية فى المجتمع ككل، ولدى الأجهزة الأمنية بصفة خاصة، وهو ما تلقفته وكالات الأنباء العالمية وبعض الفضائيات وأعادت نشره باعتباره الحقيقة، وحين خرجت بيانات المتحدث العسكرى عن الأحداث مشفوعة بصور دامغة لمقتل الإرهاببين وفشل مخططهم، تأكد للجميع أن توافر المعلومات الصحيحة من المصادر الرسمية كفيل بألا يقع أحد فى خطأ غير مقصود ولكنه قد يؤثر سلباً على الوضع العام للمجتمع. وإذا كان مطلوباً من الإعلاميين والصحفيين أن يتحلوا بأكبر درجة من الحذر عند إعادة نشر معلومات متداولة فى الفضاء الإلكترونى حول ما يجرى فى مصر، فإن الأجهزة المعنية بالمواجهة الأمنية عليها أيضاً أن تكون على صلة دائمة بالإعلام وتزويده بالمعلومات الدقيقة أولاً بأول، وإلا فمسئولية الخطأ غير المقصود واردة بلا أى عقوبة.