ما هذا الصخب الذى يلتهمنا؟ المحل يعلن عن افتتاحه فيستأجر أكبر سماعات عرفها التاريخ ليبث ما لم يلذ وما لم يطب من أقبح الأغنيات بأعلى صوت متاح. لا يهم أن يفسر الناس الكلمات، ولا تفرق كثيراً إن استمتع الناس بالموسيقى أم لا، فالمهم هو أن يغطى الصوت على كل ما عداه. سائق الدراجة النارية يختار أن يستمع لآيات من الذكر الحكيم، ولمضاهاة الرياح ومجابهة أبواق السيارات فإنه يدير المذياع على أعلى درجة ليسمع ومن حوله. صحيح أن ضوضاء الشارع وتوتره وجنونه لا تسمح لا لصاحب المذياع ولا المحيطين أن يتمعنوا ويدققوا فى الآيات، لكن لا يهم. المهم أن يعلم الجميع أنه ورع. جحافل سائقى الميكروباص والنقل ونصفه وربعه ومعهم ما تيسر من باصات نقل عام، ولا مانع من حفنة من الـ«توك توك» و«التريسيكل» لا تجد ما يؤنس طريقها، ويفرض سطوتها، ويدعم سلطتها سوى الدق على آلات التنبيه تارة بهستيرية ما أنزل الله بها من سلطان، وتارة برتابة لا تفرق كثيراً عن الهستيريا فى قبحها ولزوجتها. فى الأفراح وليالى الملاح، ينبغى حتماً ولزماً ولابد أن يغطى صوت الفرقة الموسيقية أو الـ«دى جى» على أصوات الجميع. فكلما علت الموسيقى كلما زادت الفرحة وانتفخت السطوة والعكس صحيح. وحتى فى مراحل ما قبل الفرح، فإن الزفة ينبغى أن تكون أبواق سيارات لا تتوقف وضرب خرطوش لا ينقطع وألعاب نارية لا أول لها أو آخر. وفى المآتم والمناسبات الحزينة، ينبغى أن يكون صوت المقرئ أعلى من صوت البائع الجوال فى أول الشارع ومدام فتحية فى الدور التاسع، وإلا فالمرحوم لن يكون مستريحاً فى مثواه الأخير. وإذا ابتغينا كوباً من الشاى أو فنجاناً من القهوة ووجدنا ضالتنا المنشودة فى مقهى (أو بحسب الفئة الطبقية فى الكافيه) فإن مشروبنا المفضل يأتى مصحوباً بزجاجة مياه معدنية وقناة تليفزيونية مفتوحة على أعلى صوت ممكن، سواء كانت أغنية أو مسلسلاً أو مباراة أو قرآناً. فتجد نفسك ترتشف رشفة من الكوب ثم تصيح وتزعق بأعلى الصوت حتى يسمعك صديقك أو إلى أن تنقطع الكهرباء، أيهما أقرب. وإن لم تجد سوى البيت ملجأً وملاذاً، فترتدى بجامتك المفضلة وتجلس أمام التليفزيون لتهنأ ببضع دقائق من المشاهدة الراقية، باغتك أحد خيارين لا ثالث لهما: فإما المدام والأولاد يطالبونك بنقل مؤشر الصوت من ستة أو سبعة لـ57 أو 86، أو يهل عليك عبر الشاشة الفضية كل ما ومن شأنه أن يثير ضوضاء وصخباً وجلبة وصياحاً وصراخاً. ويأتى رمضان هذا العام ملغوماً بكم هائل من برامج «المقالب» المعتمدة على صراخ الضيوف ونعر المذيع وجلجلة وهتاف الكومبارس. وكلما جاءت المحصلة النهائية أكثر ضوضاء وأعتى جلبة، أمكن تصنيف البرنامج باعتباره جماهيرياً. حتى ملوك التوك شو، فقد همس أحدهم فى أذن أغلبهم قائلاً: «كلما أردت أن تستحوذ على حواس المشاهد على صوتك، انفعل، زعق، اصرخ، كن طبيعياً»، وكأن الطبيعى هو الصراخ طيلة الوقت. لم تعد الغالبية تلتفت وراءها لا إرادياً إذا صاح أحدهم صيحة جهورية، ولم يعد المصريون ينتفضون لسماع صوت فرقعة أو معايشة أصوات طلقات، فغالبية الأفراح قوامها ألعاب نارية وكل المناسبات هبد ورزع بين شماريخ وخرطوش أو حتى ما تيسر من بمب وصواريخ. أصبحت الأصوات المرتفعة عادية فى حياتنا، وتحولت الضوضاء إلى مكون رئيسى فى يومنا لا يزعجنا أو يؤرقنا أو يحول دون نومنا. أصبح الصخب عادياً لأنه قبح ونحن اعتدنا القبح. ليه تتكلم بهدوء لما ممكن تزعق؟