«الوطن» فى «بيت عائلة محامي الشعب»: قل «إتش»..ولا تقل «سيادة المستشار»
«يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى»، قرآن كريم يأتى صوته من بعيد، يرتفع الصوت تدريجياً بخطوات داخل الشارع، الحياة قائمة فى كل زاوية، والحركة لا تتوقف، لكن الوجوه يكسوها حزن شديد يتجاوز حزن عموم المصريين، هنا فى حى السكاكينى البسيط بمنطقة الضاهر، إحدى المناطق الشعبية بالقاهرة، الفجيعة أكبر، والمصيبة أشد، والأهل كبيرهم وصغيرهم حزانى ليس لفقدان «النائب العام» فحسب، لكن لفقدان أحد أبنائهم الذى قضى بينهم 40 عاماً، لم يعرفوه إلا صادقاً وأميناً، ولم يعرفوا عائلته إلا عائلة خير وحب وكرم. يقول أحدهم: «هو أحسن من فينا»، ويقول آخر: «كان صديقاً وأخاً طيباً»، ويقول ثالثهم: «إحنا مش حزانى على سيادة المستشار بقدر حزننا على (إتش).. ابن المنطقة الجدع، اللى ماتغيرش سواء وهو صغير أو كبير». «الوطن» ذهبت إلى بيت عائلة المستشار هشام بركات، النائب العام الذى اغتاله الإرهاب فى نهار شهر الصوم والعبادة، إثر عملية تفجير وصل مداها إلى قلب كل مصرى عموماً، وقلوب جيرانه القدامى وأصدقاء الطفولة على وجه الخصوص.
فى العقار رقم 21 بشارع ابن خلدون بالسكاكينى، عاشت العائلة فى منزل مكون من 3 طوابق، غادروا المنزل قبل عدة أعوام لكن أبوابه لا تزال مفتوحة لاستقبال ذوى الحاجة والسائلين بالطابق الأول فى جمعية خيرية أسستها العائلة قبل الرحيل. أمام المنزل يقف «أحمد»، طالب الثانوية العامة، ابن «الحاج ماهر»، صديق الدراسة للمستشار هشام بركات: «الجمعية بتقدم مساعدات لكل الناس، ومفيش حد فى السكاكينى مايعرفش العائلة وتاريخها، أنا سمعت من بابا لأنه كان صديق مقرب للمستشار الله يرحمه»، بدوره يحكى «الحاج ماهر» عن أيام الدراسة التى جمعت بينهما: «كان شاطر جداً، ومجتهد، وذكى، وعمره ما بيخاف طالما على حق، كان يقول دايماً: اللى معاه الحق، معاه ربنا»، موضحاً أن شخصيته فى مرحلة الصبا والشباب لم تختلف مع كبر سنه أو عمله كمسئول كبير بالدولة.
بائعة خضار، يعقبها بائع فاكهة، يعقبهما رجل عجوز يجلس داخل ورشة نجارة بسيطة، على بعد أمتار قليلة من المنزل، يمسك بين يديه بإحدى الصحف التى يتصدر صفحتها الأولى عنوان عريض باللون الأسود، يقول: «الإرهاب يغتال محامى الشعب»، عيناه لا تمران إلى السطور اللاحقة، يسكت كأن على رأسه الطير، ما زال لا يصدق الخبر رغم مرور 24 ساعة، يشرد بذهنه إلى ذكريات بعيدة، يستعيد أياماً مضت عليها سنوات طويلة، لكنها لا تمضى من ذاكرته، بعد لحظات يبدأ حديثه وعيناه متسعتان بأثر الصدمة: «كان أكتر من أخ، راجل بجد مش أى كلام، من صغره طريقه مستقيم، ويعرف ربنا، الصح صح والغلط غلط، وأحلى صفاته التواضع، كان مشهور عند الجماعة الكبار زى حالاتى باسم (إتش)، وصديقه الحاج على عباس، اللى توفى من كام شهر وحضر المستشار عزاءه، كان يقوله يا (إتش) حتى بعد تعيينه نائباً عاماً، ووسط كل الناس»، أعمال خير لا تحصى لابن حى «السكاكينى» يتذكرها عم «حسين حلمى السيد» بين مساعدة فقراء، وحل مشكلات للأهالى، والمشاركة فى مناسبات الضراء والسراء: «كان يخرج من جيبه ويعطى للمحتاج، وأكتر من مرة حضر مشكلات تتعلق بحقوق مادية وكان يدفع من ماله الخاص لتراضى الطرفين وحل الأزمة، وعمره ما غاب عن عزاء يعرّف به أو فرح يُدعى له، سواء وهو شاب صغير أو خلال مراحل عمله كمستشار كبير، وعشان كده كلنا بنحبه ولسه ريحة العيلة موجودة وسطنا».
الرجل السبعينى الذى ضرب الشيب رأسه، أرجع الأخلاق التى تميز بها الشهيد إلى أن «الثمرة الطيبة أصلها شجرة طيبة» حسب قوله: «العائلة أباً عن جد، كانت معروفة بالأدب وحب الخير، والدته الدكتورة هنية محمد عبده، الست الطيبة، كانت تعالج أى مريض مجاناً على نفقتها الخاصة ولا تتوقف عن أعمال الخير وتشارك بالرأى والنصيحة، كانت زى الكبيرة بين الناس كلمتها حكمة، كل أهالى الحى عارفينها كويس جداً، ويحلفوا بحسن كرمها وأخلاقها العالية وعقلها السديد»، يستدرك «عم حسين» بعد صمت: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، يقولها وهو يضرب كفاً بكف، ثم يوجه بعدها رسالة إلى الرئيس السيسى، بنبرة غضب وشىء من اللوم، قائلاً: «إحنا مستنيين إيه يا سيادة الرئيس، اضرب بيد من حديد زى ما عمل جمال عبدالناصر، ونفذ أحكام الإعدام على الإرهابيين والخونة من الإخوان وإخوانهم اللى موجودين بالسجون، هنستنى لحد إمتى، ولو القضاء العادى بطىء، انقل المحاكمات لقضاء عسكرى، ده حق الشعب وحق الدولة».
أهالى شارع «ابن خلدون»، الذى تتصدره صورة لـ«السيسى» مرسومة على أول الجدار وقرب منها اسما الشارع والحى على لافتتين صغيرتين، أوضحوا أن العديد من الأسر فى الشارع سموا أولادهم على مدار الأعوام السابقة باسم «هشام» حباً فى «محامى الشعب» الشهيد، وتطلعاً أن يسير أبناؤهم على نفس الطريق، «أحمد»، الذى يقترب من عامه الخمسين، ويعول أسرة من 5 أفراد، أحد هؤلاء: «سميت ابنى الأخير هشام، جه بعد ثورة 30 يونيو وهيكمل سنة من عمره قريباً، واخترت له الاسم أملاً فى إنه يطلع زى الراجل الوطنى، اللى عاش حياته عشان بلده وأهله، ومات شهيداً ساعة صيام»، «أبوهشام» قال إن جميع أهالى الضاهر شعروا بالصدمة بعد واقعة التفجير، وصدمتهم كانت أكبر من باقى المصريين، لأنهم يعرفون الوجه الإنسانى لـ«الرجل الطيب» صاحب القيم والخير والسيرة الحسنة، الوجه الذى لا يعرفه كثيرون.
شارع ابن خلدون الذى نشأ به الشهيد
صديق الشهيد يتحدث لـ«الوطن»