لا مفر عند تجديد الخطاب الدينى من تفكيك كل التأويلات المغرضة والجهولة بطبيعة النص، والتى حوّلت القرآن عن معناه الأصلى إلى أداة سياسية أحياناً وإلى غطاء للأساطير أحياناً أخرى، وهذه التأويلات -سواء كانت مغرضة أو جهولة- فى «بعض» كتب التفسير الذائعة تجدها مستندة إلى إسرائيليات ومرويات موضوعة أو ضعيفة.
وفى هذا السياق لا بد من التأكيد على أن علماء التفسير والفقه وغيرهم ليسوا كلهم فى كفة واحدة نحكم عليهم بالسلب أو الإيجاب، فمنهم من هو راسخ العلم والفهم، ومنهم من يحمل نصف علم وهذا خطر، ومنهم من لديه المعلومات لكن عقليته غير منضبطة ويفكر خارج الزمن والتاريخ، وهذا هو الأخطر. ومجدداً أؤكد أن من الخطأ التعميم. ومن أسف فإن بعض المتناقلين للآراء يُحملونها من المعانى ما ليس فيها، إما لأن هناك مشكلة فى طريقتهم للفهم، وإما لأنهم يقصدون إلى الإثارة الإعلامية.
والتراث العربى -مثله مثل أى تراث آخر فى الشرق أو الغرب- ملىء بمثل هذه التأويلات المغرضة أو الجهولة، لكن التراث العربى قدم أيضاً لنا كثيراً من التفاسير التى كشفت الزيف عن التأويلات المغرضة والجهولة، وفككت المعانى المزيفة والأسطورية التى قدمها بعض المفسرين الذين يعتمدون على المرويات الموضوعة والضعيفة دون إعمال التفكير ودون التدبر فى معانى الوحى وفق قواعد القراءة المنضبطة. ومن نماذج التفاسير التى قدت نموذجاً من أفضل ما يكون فى فهم الكتاب فى ضوء الكتاب نفسه وروحه ومقاصده، تفسير الفخر الرازى «مفاتيح الغيب» المعروف بالتفسير الكبير. لكنه للأسف غير منتشر بين الناس على الرغم من أنه مطبوع أكثر من مرة. ويمكن القول إن كثيراً من الدعاة لا يقوون على قراءته. وفى المقابل يلجأون إلى تفاسير سهلة لكنها مشتملة على إسرائيليات، ومن أسف فإنها هى الشائعة بين الناس وبأرخص الأسعار، والعجيب أن كثيراً من الدعاة والشيوخ ربما يعرفون هذه الحقيقة، لكنهم يستسهلون ويريدون الاستشهاد بـ«حكايات» يدغدغون بها مشاعر العامة، ومرويات تقص العجائب والمفارقات، أما «الأفكار» فلا أحد منهم قادر على متابعتها أو إجبار ذهنه على فهمها ونقلها للناس! والدعاة الناجحون هم الذين يقصون القصص غير الحق، لكنه قصص مسلٍ مثل الأفلام الهندية!
وأتذكر أننى التقيت مع أحد الإخوة الأفاضل المسئولين عن قناة دينية فضائية شهيرة، وقلت له: لا بد من التحول من مرحلة «الوعظ والإدهاش» إلى مرحلة «الفكر والتفكر»، لأن الوعظ بهذه الطريقة ليست له أية نتائج إيجابية، فشعبنا «المتدين بطبعه» سلوكياته يعرفها الجميع! وهذا يعنى أنه توجد مشاكل فى طرق التفكير المحركة للناس، وتوجد إشكاليات فى طريقة فهمهم لروح الإسلام ومقاصده وما يريده من الناس، ولا بد من قيادة الجمهور نحو إعمال الفكر والعقل فى كل قضايانا. وكان اللافت للنظر أن رأيى أعجبه، لكن عندما رجع إلى المحرك الحقيقى للقناة ضرب بالكلام عرض الحائط، وحجته أنه يريد مشاهدة عالية وإعلانات، أى أنه يفكر فى الدين مثلما يفكر المنتج السينمائى فى «شباك التذاكر»!
ومن هنا فتفكيك تلك الذهنيات العتيقة والمنظومات الأسطورية التى أفرزتها والتى سارت بحضارتنا إلى هذا المنحدر التاريخى الذى نعيشه بات ضرورة قصوى من أجل العودة إلى المنابع الأولى الصافية.
وهنا أيضاً تظهر أهمية عملية التفكيك من أجل فضح معانى وتأويلات الكهنة والساسة المتقنّعين بالدين. وربما يقول قائل: «إن النص حمال للمعانى، ومن العسير الوصول إلى معنى موضوعى».
نعم.. إن النص حمال أوجه، لكن المعانى ليست مفتوحة بلا قيد ولا شرط، ومرونة النص فى كثير من مواضعه لا تعنى أنه لا توجد معان محكمة وموضوعية، ولا تعنى النسبية المطلقة للمعنى، ولا تستلزم ضياع الدلالة وسيولة المقاصد والأحكام، بل تعنى أن النص «حى وديناميكى»، وليس ميتاً أو استاتيكياً. وتوجد قواعد وشروط لاستخراج المعنى، كما توجد مناهج علمية لطريقة إنزاله على الوقائع المتغيرة.
فكلمات النص واضحة ومباشرة فى الآيات المحكمات، أما الآيات المتشابهات فهى التى تجعل النص متجدداً لملائمة تغير الزمان والمكان، وهنا دور الراسخين فى العلم الذين يملكون شروط الاجتهاد واستنباط الأحكام. لكن كهنة الأديان الذين تجمدت معهم علوم الدين عهدناهم يستغلون «تعدد الدلالات» ليُسقطوا أوهامهم على النص ويأخذوا منه مبرراً لكل هوى حتى لو كان إهداراً للدماء وهتكاً للأعراض وتدميراً لموارد الحياة والحضارة والتمدن. وعلى مستوى آخر يحولون «المحكم الواضح» إلى «مغلق غامض» يحتاج تفسيراً، و«المباشر» إلى «غير مباشر» يحتاج وسيطاً، حتى يكونوا هم الوسطاء فى الفهم، و«يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ» ليعطوه معانى ليست فيه، وغالباً تجدهم لا يفهمون الكلام على «قَدّ» الكلام، بل يلونون معانيه بأفكارهم ويزيدون معانى من عندهم، حتى يؤسسوا وصايتهم على الدين وعلى الناس! ولذلك فهم يرفضون التعقل النقدى ويرفضون التفكير المنهجى اللذين ألح القرآن عليهما فى تأسيس الإيمان وفى فهم نص الكتاب، فالعقلانية «انحراف» على الرغم من أن الكتاب نفسه اشتمل عليها، والتفكير «هَمّ» و«ضلال» على الرغم من أنه فريضة قرآنية!