م الآخر| في مثل هذا اليوم.. أصبحت يتيم الأب
لا تزال الحجرة الخاصة به محتفظة بكل تفاصيلها ومعالمها، الحائط ذو اللون الباهت، السرير في مكانه، الملاءة التي لفظ أنفاسه الأخيرة عليها،مكتبه الذي كان يحتفظ فيه بكل ما يملك من ماضي ومستقبل، "الدولاب"، أدواته الخاصة، كل هذه الأشياء لم تتزحزح عن مكانها أو تتغير، إلا هو.. ذهب ليستريح، وتركها ليبكينا.
يوم الجمعة 10 يونيو 2011، تاريخ لم ولن يُمحى من ذاكرتي. أستيقظ من نومي مبكرا، وأستحم كعادة أغلب المصريين في يوم الجمعة، ثم أجلس لحين سماع أذان الجمعة، وقد نما إلى علمي-في وقت سابق- أنه سوف يأتي من المستشفى في هذا اليوم، ولكن متى.. لا أعرف.
كنت أظن أنه بخير، أو كنت أهيئ لنفسي أنه هكذا، لم أكن أتخيل مطلقا أنه مصاب بهذا القدر من التدهور، لم يكن يظهر لنا شيئ من هذا المرض، كان يتعامل كأنه شاب ثلاثيني، كان صديقا، كان أخا، كان حبيبا، كان أبا رحيما وحنونا، كان يحمل صفاتا، اختفت وسط زحام قسوة الحياة.
أسمع رنين الجرس المشئوم، أنظر من شباك الغرفة متلهفا للقاءه، لأرى سيارة إسعاف، وإذ به على سرير طبي "نقالة"، ويعيش في عالم غير الذي نعيش فيه، لا يرى أحدًا، لا يرى أي شيئ، ولكن هل حقا لا يراني؟! أنا من كنت طفلا مدلالا بالنسبة له، أنا كنت فلذة كبده، كنت "يوسف" معه، وكان "يعقوب" معي.
هرولت إلى سيارة الإسعاف في غير انتباه، محدقا في ملامحه لأتحسس بنظري حركة منه تعيد إليّ روحي، وتطمئنني أنه مازال على قيد الحياة. ظننت أنه قد مات، لاسيما أن عددا ليس بالقليل كان يرافقه، وكان هذا شيئ على غير العادة!
بعد خروج مؤقت لروحي، رأيته يتنفس، أخرجت زفيرا، حمدت الله، "الآن اطمئنيت قليلا"، أعيدت روحي إليّ مرة أخرى، ولكني عدت أسأل –كالمجنون- عما يحدث له، ليخبروني أنه "في غيبوبة كبد وهيفوق، بس روح هاتله الحقنة دي".
ذهبت مسرعا إلى الصيدلية لأشترِ له هذا العلاج الذي سيعيده إلينا مرة أخرى، كنت أسمع خطبة الجمعة وأنا في طريقي لشراء هذا العلاج. أردد "يارب رجَّعه لينا.. يارب إنت اللي عالم بحالنا.. يارب.. يارب.. يارب"!
عندما وصلت إلى الصيدلية، لم أطلب من البائعة العلاج في لهفة وتسرع، بل كنت أصطنع الهدوء لتسرع هي في الإتيان به دون ارتباك، حتى لا ترتبك وتعطيني علاجا غير المطلوب، وأضطر للعودة إليها مرة أخرى، وأكون بذلك قد أضعت الكثير من الوقت، الذي أحتاج أن أقضيه معه. أخذت منها العلاج وعدت إلى المنزل مسرعا، لأجده على الحالة التي تركته بها. ذهبت لأصلي الجمعة، وفي السجدة الثانية، انهالت دموعي بالبكاء مع ترديد الأدعية دون أن أدري.
عدت إلى المنزل، فوجدت أمي تجلس بجانبه وتقرأ سورة "يس". هنا تيقنت أن اللقاء أوشك على الانتهاء، لم أجد إلا البكاء سبيل، ظللت أقبل رأسه ويديه وقدمه، أردت أن أشبع عيني منه، لم أنتبه إلى الدموع التي تُذرف من عيني، انهال الجميع في البكاء عندما علمنا أنه يحتضر، لم أفكر حينها إلا في النظر إليه، أنظر إلى وجهه وأقول لذاكرتي: "أرجوكي لا تنسي هذا الوجه.. أرجوكي لا تنسيه"!
ساد الهدوء قليلا، ودخلت إلى غرفتي لأرتاح قليلا، وهي رغبة الآخرين، إذ أنه من الممكن أن يستمر في هذه الحالة كثيرا، هكذا قالوا لي. غفلت عيناي لوهلة، وإذ بصوت يفزعني، إنه صوت أمي، إنها تصرخ، هرولت إلى حجرته، لأجد الجميع يلتفون حوله ويبكون، نظرت إلى أعينهم عينا عين، وإذ به ناضر الوجه مبتسما، لقد اختفت منه علامات المرض. إنه الموت، إنه الفراق الأبدي.. الآن قد مات سندي، من كان يحنو عليّ، مات أبي!
قرأت سورة "يس"، وقبلته من جبينه، ووضعت المصحف على صدره بعد أن وضعت غطاءً على وجهه، وأغلقت الإضاءة والباب. خرجت أنظر إلى أعين أقاربي الغارقة في الدموع. وتدق الساعة الخامسة، وينادي المنادي في المسجد معلنا وفاته إلى رحمة الله، يعلو صوت البكاء، وأزداد أنا في توهة، تُذهب عقلي كما أذهب البكاء بصر يعقوب على فراق ابنه يوسف.
تركني أبي في أكثر الأوقات احتياجا له، لم أُكمل حينها سن السابعة عشر، تركني قبل أن أستطيع التسند على ظهري، ترك ظهري بلا سند حتى انكسر، من الذي أحكي له اليوم عن أحزاني؟ من الذي أحكي له اليوم عن سعادتي؟ من الذي أحكم له اليوم عن حبيبتي؟ لم أعد أحكي لأحد.