فشلت كل محاولات مرتدى ثوب العقلانية فى عالمنا العربى فى الوصول إلى الجماهير وإيجاد صحوة ثقافية، وأغلب العقلانيين العرب أنفسهم ما هم إلا متعصبون أيضاً، لأن عقلانيتهم غير محكومة بمعايير العقل النقدى، ومن ثم شاركوا فى حالة «التجمد الفكرى» التى نحياها، فهم يقفون على الأقدام الفخارية نفسها التى يقف عليها «التجمد الدينى»، مثل: التقليد، والتعصب، والعقل المغلق، والاستئثار بالحقيقة، ونفى الآخر، وثقافة التسلط، وثقافة التآمر، والانغلاق على نظام قيم معين بصورة جامدة، وثقافة التبرير، وعدم الرغبة فى فتح قنوات للحوار والبحث عن أرضية مشتركة راسخة تقوم على الحقائق البديهية التى يلتقى عندها جميع الإخوة الأعداء. إن عقلانيتهم عقلانية تقليد وليست عقلانية نقدية، لأنها إما تقليد حرفى للمعتزلة المغرقة فى النظريات العقائدية بلا طائل، أو تقليد سطحى للعقلانية الغربية فى القرنين السابع عشر والثامن عشر التى انتهى زمانها.
إن العقلانية السائدة اليوم ليست عقلانية حقيقية، إنها عقلانية مصطنعة تحلق خارج التاريخ، ومنعزلة عن الوعى بالواقع المعيش. إن عقلانيتهم تزعم امتلاك الحقيقة كلها وتنفى الآخر، لذا تقع فى فخ التعصب لقدرة العقل المطلقة مثل التيارات النقلية الحرفية المتعصبة للنصوص دون فهم أو تمييز!
ولا تقع المسئولية عن حالة التجمد الدينى على رجال الدين فقط، بل تقع أيضاً على المفكرين والأكاديميين والمثقفين والإعلاميين، فالجميع شركاء فى المسئولية عن حالة العقل العربى التى دخلت فى حالة «تجمد» منذ قرون ولم نستطع الخروج منها حتى الآن، بسبب الفشل فى إسقاط الأقدام الفخارية للتجمد الفكرى العام، والتجمد الدينى خاصة. وبالتالى فإن النقد لا يجب أن يوجه فقط للتيارات الدينية المتعصبة، إنما يوجه بالمثل لإخوانهم الأعداء من المفرطين فى العقلانية والمتعصبين لأفكارهم إلى أبعد مدى، مع أن الأصل فى العقلانية هو العقل التواصلى والانفتاح والحوار والنسبية.
إن التعصب -أكرر- ليس وقفاً على بعض التيارات الدينية التى تعاند العقل النقدى المنضبط بحدود الواقع، إنما يطال خصومهم من المتعصبين تعصباً كلياً لقدرة العقل المطلقة، فالعقلانيون تيارات متنوعة، وليسوا كتلة واحدة أو فريقاً واحداً، بل إن منهم المتعصب الذى يبنى قصوراً من الرمال عندما ينساق وراء العقل وحده بعيداً عن الواقع الحى، مؤمناً إيماناً مطلقاً بقدرة العقل دون شرط أو قيد، وهنا يقع المفرط فى العقلانية فى شباك الدوجماطيقية التى أشرنا إليها مراراً، حيث «يذهب إلى إثبات قيمة العقل وقدرته على المعرفة وإمكان الوصول إلى اليقين، وإذا كان مذهب الشك يوصى بالامتناع عن إثبات الحقائق أو نفيها، فإن العقلانية الدوجماطيقية ترى أن العلم الإنسانى لا يقف عند حد، وتؤكد قدرة العقل على المعرفة والتوصل إلى اليقين دون أى مساندة من التجربة. وقد سارت هذه النزعة فى فلسفة بعض العقليين إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر، ونحا نحوها التجريبيون الذين أكدوا إمكان المعرفة عن طريق التجربة (مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفى). لذا حسب وجهة نظرنا فإن الملحدين والمنكرين للعقائد الدينية متعصبون كذلك، لأن موقفهم العقلى غير منضبط ويستند إلى يقين مطلق وثقة كاملة فى صحة موقفهم وتصوراتهم وفى جزمهم بعدم وجود الله، على الرغم من أنهم لم يحيطوا علماً بالكون ولا بأنفسهم.. يا لها من سذاجة! ونجد هذا التعصب الدوجماطيقى نفسه -لكن كطرف نقيض- عند بعض التيارات فى علم الكلام وبعض علماء أصول الدين، حيث يؤكدون على قدرة العقل التى يزعمون مطلقيتها، ويعطونها الحق فى تناول الصفات الإلهية، دون أى شروط أو حدود! بينما فى المقابل يبالغ آخرون فى إنكار العقل ويؤكدون هيمنة المعنى الحرفى للنص المرجعى دون محاولة للتفاعل معه أو تفعيله فى إطار التنزيه. ومن ثم يفهمون آيات الصفات فهماً تشبيهياً أو تجسيمياً استناداً للفهم الحرفى الظاهرى لبعض النصوص، كما يفهمون آيات الأحكام بالمثل فهماً حرفياً دون مراعاة الواقع المتغير وقواعد علم أصول الفقه. إن إنكار العقل نهائياً دوجماطيقية، وفى المقابل فإن إثبات قدرة العقل المطلقة دوجماطيقية واضحة أيضاً. إنها العملة نفسها لكن من وجهها الآخر!
وللتعصب العقلى أشكال ساذجة، مثل التعصب الساذج الذى نجده عند بعض مشجعى كرة القدم، بل مثل التعصب الذى نجده منتشراً فى عصرنا عند رجل الشارع، فرجل الشارع يفتى فى كل شىء وهو متعصب لتصوراته تعصباً أعمى؛ إنه يملك الإحاطة بكل شىء: السياسة والعلم والفن والدين والاقتصاد، فهو يتصور نفسه ذكياً جداً وعالماً جداً وقائداً لا نظير له! إن تعصب رجل الشارع مثله مثل تعصب النخبة لا يختلف عنه إلا فى المظهر وطريقة التعبير. وهذا التعصب قرين التقليد الأعمى دون برهان، وكلاهما من الأقدام الفخارية التى تقوم عليها حالة «التجمد الدينى»، وهما مجرد قدمين من أقدام كثيرة يقوم عليها هذا التجمد الأخطبوطى العقيم. أليست هذه هى أركان ثقافتنا المعاصرة كلها الآن، وليست أركان الثقافة الدينية فقط؟ أوَليست هذه هى العوائق التى تغلق عنق الزجاجة التى لم نستطع الخروج منها على الرغم من المحاولات الفردية من بعض المفكرين ورجال الدين؟