للتصوف ظاهر وباطن، لأنه في جوهره تجربة روحية، وعلاقة شخصية خالصة بين الإنسان وربه، يرتقي فيها عبر مدارج من المقامات والأحوال، حتى يصل إلى أعلى درجات القرب والولاية، وعندئذ يتبدى له ما لا يراه الأخرون، ويرى الأمور كما هي، ويطلع على أسرار الملكوت، ليصير الإنسان الكامل الروحاني الذي أقترب ورأى.
وعندما يعود هذا الإنسان من حالته الصوفية العرفانية، يجب عليه كم نص دستور الصوفية الكبار، ألا يبوح بما رأى، وأن يحفظ أسرار التجربة، ومن خالف ذلك فقد أهدر دمه. وفي هذا الصدد قال الشيخ الشبلي: " من أباح الأسرار فقد أبيحت دمائه"، وبكلماته تلك، وما تتضمنه من إدانة سلبية، أُهدر دم الحلاج تلميذ الشبلي، بعد أن باح بحاله، في كلام ظاهرة مخالف لشريعة الفقهاء والسلطان.
إذن، فحفظ الأسرار في التجربة الصوفية، طوق نجاة للصوفي من مصير الحلاج، وهو باطن التجربة، أما ظاهرها فيتبدى في اتباع السلوك القويم، والتحرر من أسر العبودية لكل ما سوى الله، ورفع لواء الدفاع عن الحق والخير والجمال، والدفاع عن كرامة الإنسان صاحب الكمال الوجودي، لأنه مخلوق على صورة الله، ويحمل قبسا من روحه.
أما عن موقف هذا الإنسان الكامل في الحياة العامة، التي تتسم دائما بالغموض والتدليس والالتباس، فيؤسس على دعاء الإمام علي رضى الله عنه" اللهم آرنا الأمور كما هي". وهو يقصد في الغالب ألا يراها كما تريد مصالحه وأهوائه، أو كما يُريد له البعض أن يرها، ولكن أن يراها على حقيقتها، حتى يستطيع أن يبني عليها حكمه، وينطق فيها بالرأي الصواب، والكلمة الفصل، دون أن يخشى في الحق لومة لائم.
وفي ظل واقعنا المصري الحالي، الملتبس، والمتخم بصراع مركز القوى القديمة والجديدة، وأصحاب المصالح الدائمة، وغموض سياسات وقرارات واختيارات الحكومة والرئاسة، يجد الإنسان الذي يسعى إلى الكمال الروحي والأخلاقي، المحترم لنفسه وعقله، المهتم بالشأن العام، الداعم لنظام الحكم الحالي، صعوبة كبرى في فهم هذه القرارات والسياسات والاختيارات، ومن ثم تبريرها للآخرين والدفاع عنها. ولذا فهو يدعو الله صباحا ومساءا : اللهم أرنا الأمور كما هي على حقيقتها، لا ما كما يراد لنا أن نراها، حتى لا يُدلس أحد علينا، ولا كما نريد أن نراها، كي لا ندلس على أنفسنا.
فمتى يدرك النظام الحالي، أنه لم يعد من المقبول بعد ثورتين، أن يسود الحياة السياسية كل هذا الغموض المثير للحيرة، وأن يدير النظام البلد سياسيا بمنطق الباطن والظاهر في التجربة الصوفية، فيزيد في مساحة الباطن الخفي المضنون به على غير أهله، ويطلب من الناس أن يقبلوا بالظاهر، ويظنوا بالنظام خيرا، دون أن يطلبوا تفسيرا أو تبريرا، لأن متخذ القرار، ومن هو على رأس النظام قد أقترب ورأى ما لا يراه الأخرون، ولكنه لا يستطيع التصريح به.
ومتى يدرك أن عليه في الظاهر والباطن، أن يتسق بالكامل في سياساته وقرارته واختياراته مع روح 25 يناير و30 يونيو، وطموحات جموع المصريين الذين خرجوا في الثورتين، مرة للقضاء على الفساد ومشروع التوريث، ومرة للقضاء على الفاشية الدينية ومحاولة مسخ الهوية المصرية، وفي المرتين لبدأ مرحلة جديدة في تاريخ مصر تؤسس على المكاشفة والمصارحة والمصالحة بين السلطة والشعب، وتتوزع فيها الحقوق والوجبات بين القيادة والقاعدة.