تحيا الدول بالأفكار السوية، وترتقى حضارات الإنسان بإبداعاته الفكرية، ولذلك نزلت الكتب السماوية فى صورة «هدى» وليست فى صورة «قانون، أو تعليمات»، حتى يستطيع الإنسان فى كل عصر أن يستنبط من هذا الهدى قانونه الذى يناسبه زماناً ومكاناً، وتعليماته التى تلائمه وضعاً وحالاً. يخطئ من يرى القرآن الكريم دستوراً أو قانوناً، وكأنه يتهم الله عز وجل -وحاشاه سبحانه- أن يصف القرآن بغير حقيقته عندما قال: «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ» (البقرة: 2)، وقال سبحانه: «قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى» (الأنعام: 71)، وقال جل شأنه: «وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (الأعراف: 52). وكما وصف الله تعالى القرآن بأنه «هدى» وليس دستوراً أو قانوناً أو تعليمات وصف التوراة والإنجيل كذلك بالهدى فقال سبحانه: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ» (غافر: 53-54)، وقال سبحانه: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ» (المائدة: 44)، وقال تعالى: «وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ» (المائدة: 46).
وكأن الله عز وجل يقول للإنسان إن كلام الله المقدس فى «التوراة والإنجيل والقرآن» ينير الطرق الفكرية للإنسان ليتخذ قراره بنفسه حتى يتحمل مسئوليته يوم الحساب، كما تنير الشمس الطرق الحسية للإنسان فى الأرض فيتخذ قراره فى السير أو التوقف أو التعامل مع العقبات. وبهذا يكون القرآن الكريم وكلام الله المقدس قد نزل بصفة الهدى لتمكين الإنسان فى كل عصر أن يضع دستوره وقوانينه التى تناسبه فى إدارة الحياة، وتأخذ بالإنسانية إلى الإعمار والحضارة بحكم الطبيعة المخلوقة؛ كما قال سبحانه: «هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» (هود: 61)، أى جعلكم أيها البشر بكل مللكم وأديانكم عمّارها وبانيها.
وأما فى الأحكام العبادية والشعائر الدينية التى يخصها الإنسان لربه سبحانه كالصلاة والصيام والزكاة والحج فهى بحسب أوضاعها التوقيفية، والتى لا تقتصر مرجعيتها فى تفاصيلها على كلام الله المقدس، وإنما يرجع أيضاً إلى روايات نبوية وموروثات تاريخية تلقى قبولاً عند المتدينين؛ لأنهم أصحاب الشأن فى الإيمان الذى لا يمس حقوق الآخرين.
وإذا ثبت أن القرآن الكريم وكلام الله المقدس قد نزل بصفة الهدى لتمكين الإنسان فى شئون حياته من وضع دستوره وقوانينه التى تناسبه، فإن اللبنة الأولى للدستور أو القانون هى الفكرة البناءة، ولذلك كثرت الآيات القرآنية التى تدعو الإنسان إلى إعمال فكره وعقله، ومن ذلك قوله تعالى: «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (الأعراف: 176)، وقوله سبحانه: «كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (يونس: 24)، وقوله سبحانه: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (الرعد: 3)، وقوله سبحانه: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل: 44)، وغيره كثير. كما ورد فى الأحاديث النبوية بيان فضل الاجتهاد بالفكرة فيما أخرجه الشيخان عن عمرو بن العاص أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». وأخرج مسلم عن جرير بن عبدالله البجلى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء».
ويحصل الإنسان على أجر الفكرة البناءة بابتكارها من عدم، أو بتطوير الفكرة القديمة إلى الأحدث، وهو ما يعرف بالاقتباس، أو حتى باستيراد الفكرة من الخارج؛ لما أخرجه أحمد عن بريدة، والترمذى عن أنس بسند صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدال على الخير كفاعله»، وأخرجه أبوداود بسند صحيح عن أبى مسعود الأنصارى بلفظ: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله».
وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من فكر الروم وفارس فى حكم الغيلة، وهى منع الزوج من لقاء زوجته وهى حامل أو وهى ترضع صغيرها، فيما أخرجه مسلم عن جدامة بنت وهب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت فى الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئاً» فلم ينه عن الغيلة.
ويجب على الإنسان أن يشكر صاحب الفكرة التى أنقذته من العناء، أو التى أخذت بيده إلى الرفاه، أو التى فتحت له آفاق الأمل؛ لعموم قوله تعالى: «لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ» (إبراهيم: 7)، وأخرج أحمد عن أبى سعيد الخدرى وأخرجه الترمذى عن أبى هريرة بسند صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله». وأخرجه أحمد وأبوداود بسند صحيح عن أبى هريرة، بلفظ: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».
ولنا أن نسترجع مئات الأفكار التى عشنا فى خيرها اليوم كم لأصحابها علينا من فضل، ومن ذلك فكرة الدستور فى ذاتها التى أحدثت توافقاً مجتمعياً، أو فكرة سيادة القانون التى كانت بداية للعدالة الإنسانية، أو فكرة الجنسية التى كانت أول معانى المواطنة، أو فكرة النظام الانتخابى التى أظهرت حقوق المساواة الإنسانية وألغت سيطرة أصحاب الطبقات الذين وصفوا أنفسهم بأهل الحل والعقد، أو فكرة إلغاء الرق التى هى بداية للارتقاء بالكرامة الإنسانية، وغيرها كثير من الأفكار الفارقة فى تاريخ الحضارة الإنسانية المعاصرة.
صحيح ليست هذه هى الأفكار البشرية الأولى لصالح الإنسانية، فقد سبقتها أفكار منها الحسن ومنها دون ذلك محفوظة فى التاريخ بأسماء أصحابها، ومن ذلك بعد الرسل عليهم السلام فكرة نظام البيعة التى نادى بها عمر بن الخطاب فى خلافة أبى بكر، وفكرة نظام الاستخلاف التى جاء بها أبوبكر فى إمارة عمر، وفكرة نظام الدواوين التى اقتبسها عمر من الفرس، وفكرة نظام توريث الحكم التى جاء بها معاوية بن أبى سفيان، وفكرة نظام الثورة التى قام بها العباسيون على الأمويين، وفكرة نظام توحيد القضاء بتوحيد مذهب القضاة التى جاء بها العثمانيون، وغيرها من الأفكار كثير مما صار اليوم تراثاً لا يكفى لمتطلبات العصر الذى عرف أهله ما يناسبهم مما ذكرنا بعضه، ويطور الأبناء بعضه الآخر فى جيل جديد من الأفكار مثل ما يعرف اليوم بالعدالة الاجتماعية التى هى تطوير لجانب من العدالة الإنسانية، وتسعى تلك العدالة الاجتماعية لكفالة الأغنياء للفقراء فى حوائجهم الأصلية دون الاكتفاء بسقف الزكاة، وإلى مشاركة المواطنين فى النفقات العامة بحسب دخولهم فى نظام ضريبى محكم. ومن هذا الجيل من الأفكار التطويرية ما يعرف بالعدالة الوطنية التى هى تطوير لمعنى المواطنة بما يحقق المساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات العامة، وفقاً لضوابط موضوعية عامة.
ومن هذا المنطلق فى سباق الأفكار البناءة فإننى أرى ضرورة دراسة ما يمكن تسميته بالعدالة الدينية كفكرة تحفظ لكل مصرى حقه الدينى، وتقتلع أفكار الإرهابيين المتاجرين باسم الدين وباسم الشريعة، وأرجو من الله التوفيق فى بيان ذلك قريباً.