إذا كانت إقالة أو استقالة وزير العدل بسبب إهانة ابن عامل النظافة تعد تصرفاً حضارياً يؤكد مبدأ العدالة الاجتماعية فهل يؤمن أو يطبق المجتمع والدولة العدالة الاجتماعية؟
إذا كانت مواقع التواصل الاجتماعى نجحت فى الانتقام لابن عامل النظافة، فهل نجحت فى تغيير النظرة الاجتماعية لمهنة عامل النظافة؟
الحكومة قررت تخصيص عيد سنوى لتكريم عامل النظافة، فهل قوانين الحكومة تسمح بمبدأ الكفاءة وليس لأهل العشيرة والحسب والنسب فى تولى أى منصب طالما توافرت شروط الكفاءة؟
لم تكن زلة لسان من الوزير، ولكنه القانون واليقين داخل الجميع.
ما حدث كان كاشفاً لأمراضنا الاجتماعية، وتأكيداً على أننا مجتمع لا يواجه الحقيقة، ولا يعلى قيم العلم والأخلاق، نحن مجتمع مظهرى يمارس خدعة الأحجام، ومنافق وله عدة وجوه؛ وجه يصف فيه الانتماء الاجتماعى والمستوى العلمى بصرف النظر عن الكفاءة بالانتهازية الواضحة، وهو نفس المجتمع الذى يحتقر شخصاً لامتهانه مهنة بسيطة، أو لأن مهنة أبويه موصومة اجتماعياً.. المجتمع منافق على الوجهين، نحن مجتمع يشترى فيه المال والجاه والحسب والنفوذ، ونحن نفس المجتمع الذى يمارس العنجهية والتكبر على مَن يمتهن المهن الشريفة لمجرد أنها بسيطة ويوصمها، فعامل النظافة والبواب والسائق والفراش والخادمة وقائمة طويلة من المهن موصومة اجتماعياً.
نعم نحن مجتمع طبقى رغم أنفه، ولا توجد فيه طبقات واضحة، وأشهر خدعة كبرى فى المجتمع المصرى، وهى خدعة تؤكد الجهل العنيف الذى يمارسه الجميع بمَن فيهم النخبة، هى وصفنا وتعاملنا لكل من لديه مال أو مكانة اجتماعية أو عائلة معروفة بأنه ابن أصول أرستقراطية، والتعبير العلمى أن هذه الطبقات تسمى برجوازية، فالأرستقراطية طبقة النبلاء، وقد انتهت الملكية من مصر وكان الفكر الاشتراكى يصف الطبقات البرجوازية بالانتهازية.
ما نعتبره زلة لسان من وزير العدل كشف زلات وأمراضاً كثيرة فى المجتمع وأكد أننا مجتمع متواطئ ومنافق وانتهازى ومشوش ولا يملك سوى الوصمة الاجتماعية للآخرين والاستعلاء عليهم إذا كان يملك مالاً أو نفوذاً، أما الأغلبية فتفقد الثقة فى نفسها وتُصاب بعقدة النقص وتلحق بها كل التشوهات النفسية طالما المجتمع يراهم فى خانة غير لائق اجتماعياً حتى لو امتلك العلم مثل الآخرين وأكثر، ولهذا انتحر عبدالحميد شتا عندما اصطدمت أحلامه بقانون ويقين غير لائق اجتماعياً.
غير لائق اجتماعياً، وصمة قتلت طموح آلاف الشباب المتقدمين لوظائف أو كليات معينة، ودمرت طموح آلاف غيرهم، وقضت على مبدأ تكافؤ الفرص، وعظمت من الإحساس بالظلم واليأس لدى القطاعات الأكبر.
الدولة إذا كانت جادة فى تطبيق ما ينص عليه الدستور فلا بد أن تضع أسساً ومعايير للارتقاء الوظيفى، قائمة على الكفاءة، وكون الشخص لائقاً معرفياً وعلمياً وليس لاعتبارات أخرى.
فى المجتمعات التى تحترم الإنسان وتقدره كفرد لا مجال للسؤال عن شىء غير قدراته ومميزاته عن غيره.
المعيار هنا لا بد أن يكون على أساس الجدارة والأفضلية وملاءمة الشخص علمياً وثقافياً لوظيفة وليس ملاءمته الاجتماعية.
وهل هناك أسوأ من أن تعيش فى مجتمع لا ينظر لك بشخصك وجدارتك وتفوقك وإنجازك، ولكن بأهلك وعشيرتك أو ما تملك من أرصدة بنكية، إلى درجة أن الثراء الشديد لدى البعض أصبح خطراً على صاحبه، فهناك مرض أضيف فى مصر وهو خطر الثراء، والمصيبة أننا جميعاً كمجتمع فقدنا الإيمان بقيمة الفرد ولم يعد أحد يصدق أن عدم قبوله فى وظيفة معينة حدث لضعف قدراته ولكن لضعف واسطته.
وبرغم أن الدستور ينص على تكافؤ الفرص بين المواطنين دون تمييز، وأن المواطنين أمام القانون متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعى أو الانتماء السياسى أو الجغرافى أو لأى سبب آخر، فإن نص الدستور فى وادٍ ونص الواقع فى وادٍ آخر مختلف تماماً لأنه يهدر فى أغلب الأحوال ما ينص عليه الدستور.
المجتمع قبل الدولة لا بد أن يقيّم الشخص بإنجازه الشخصى وجدارته الفردية، فالإحساس بالظلم نهايته اليأس وقتل الطموح والإيمان بقيم العدل وهذا معناه قتل المستقبل.
قد يكون مقبولاً السؤال عن أصل وفصل مَن يتقدم لخطبة ابنتك، لكن الحصول على منصب أو وظيفة لا بد من خضوعه لمعايير العدالة والكفاءة وليس الحسب والنسب. لن يتقدم المجتمع طالما كان الاحترام مفقوداً بينه وبين العمل الشريف، وطالما استمرت النظرة الدونية لأعمال ومهن بعينها، وطالما بقيت معايير الفرز الاجتماعية فى حالة تألق وزهو.
كل إنسان هو طبقة فى حد ذاته بما أنجزه وحققه لنفسه.