"الوطن" مع المصــريين الهاربين فى قلب ليبيا
لم تكن الصدمة التى تلقاها المصريون وهم يشاهدون 22 من فلذات أكبادهم الشباب العاملين فى ليبيا يُنحرون على شاطئ البحر المتوسط على يد تنظيم «داعش» الإرهابى، والضحايا يرتدون زياً موحداً برتقالى اللون ومربوطى الأيدى خلف ظهورهم ليلقوا حتفهم أمام أعين العالم كله وتختلط دماؤهم بمياه البحر، نهاية لأحزان المصريين بعد أن صدر قرار بمنع السفر إلى ليبيا، لكنها كانت البداية لصفحات جديدة من الأحزان والألم، فقد دفعت البطالة التى يعانى منها الشباب إلى الهجرة غير الشرعية، معتقدين أنهم يهربون إلى أرض الأحلام، لكنهم فى حقيقة الأمر كانوا يهرولون إلى الموت، فالمدة الزمنية التى تستغرقها رحلة السفر إلى ليبيا 48 ساعة من العذاب بعد توقف حركة الطيران المباشر إلى ليبيا، تنفيذاً لقرار منع السفر إليها. يلجأ أعداد كبيرة من المصريين إلى الهروب عبر العاصمة السودانية «الخرطوم» ومنها إلى أرض الأحلام، كما يتصور الشباب، «الوطن» خاضت تجربة السفر إلى ليبيا من المنطقة الغربية التى تسيطر عليها حكومة الإنقاذ الوطنى، منذ يوليو من العام الماضى، إيماناً منها بحق القارئ فى معرفة تفاصيل رحلة الموت وما يدور فى البلد الشقيق من خلال نقل صور حية للحياة فى طرابلس.[FirstQuote]
لم يمنعهم قرار السلطات المصرية بمنع سفر المصريين إلى ليبيا بعد مذبحة الأقباط على يد تنظيم «داعش» من التفكير فى العودة مرة أخرى إلى البلد الذى عملوا به طوال سنوات مضت، فجحيم داعش أهون عليهم من جحيم البطالة، التى عانوا منها فى بلادهم منذ سنوات، ليكون سفرهم بشكل غير شرعى إلى الدولة الجارة هو الحل الوحيد أمامهم، غير عابئين بخطورة الطريق أو التعامل مع جماعات التهريب المسلحة أو عصابات قد تلقى القبض عليهم لتعيد بيعهم مرة أخرى إلى جماعات منظمة اتخذت من الهجرة غير الشرعية مصدراً لها تحت تهديد السلاح.
داخل مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين فى مدينة مصراتة، قبع قرابة 200 مصرى فى ساحة المدرسة الصغيرة المكونة من طابقين، الأول مخصص للرجال والثانى للنساء، يجلسون القرفصاء للإدلاء بأسمائهم لأحد المسئولين فى مركز الإيواء استعداداً لترحيلهم خلال ساعات إلى السفارة المصرية فى تونس عبر معبر رأس جدير.
ملابس رثة وشعر طويل لم يعرف طريقه إلى الحلاقة طوال 45 يوماً، هى فترة الاحتجاز داخل مركز الإيواء، أجساد متراصة فى انتظار «الفرج» بعضها قضى أسبوعين وأغلبهم قضى شهراً أملاً فى انتظار قرار السلطات المصرية بتسلمهم وإعادة ترحيلهم إلى بلادهم لكن دون جدوى، صرخات البعض بالاستغاثة بمجرد رؤيتنا يتداخل مع عبارات تطالب بالترحيل «عايزين نترحل ومستعدين ندفع حق تذكرة الطيران للحكومة المصرية بس يرجّعونا لأهلنا»، «بقالنا شهر ونص والسفارة ما اتحركتش لترحيلنا»، «فيه ناس أهاليها خدت العزا فيها بعد ما فشلت فى التواصل معها بيحسبونا ميتين»، «المصرى الوحيد اللى كرامته متهانة جوّه وبرّه بلده».
«على» عامل الرخام من محافظة الشرقية، وقف وسط زملائه من المحتجزين المصريين محاولاً تهدئتهم والتحدث نيابة عنهم عن سبب وجودهم فى هذا المكان، وكيف دخلوا إلى ليبيا تهريباً عبر جماعات تهريب منظمة قائلاً: «أنا زى بقية كل الناس دى كلها ضحية مؤامرة أساساً، كل الناس دى كانت شغالة فى ليبيا بقالها عشر سنين أو أكتر، بعد منع السلطات المصرية بمنع السفر إلى ليبيا، الناس دى لسه معاهم إقامات بس ماكانوش عارفين يدخلوا ليبيا بعد قرار المنع، فمكانش قدامهم طريقة غير أنهم يتواصلوا مع الناس اللى بتهربهم إلى ليبيا وأنهم يدخلوا بطريقة غير شرعية». يضيف الرجل الأربعينى: «تواصلنا مع مجموعة من المهربين من منطقة سيدى برانى بمطروح ودفعنا لهم 2000 دينار أى ما يعادل 10 آلاف جنيه مصرى مقابل تهريبنا وأول ما خدوا الفلوس بدأوا يعاملونا معاملة الأسرى».
يحكى الرجل معاناته التى تعرض لها بعد دخوله إلى منطقة مساعد الليبية «ليبيا مساحتها كبيرة جداً وكل منطقة مسيطر عليها مجموعة مسلحة، مجموعة سيدى برانى هرّبتنا إلى مساعد، وفى مساعد تسلمتنا مجموعة مسلحة ومشيت بينا عن طريق الجبل لمدة 24 ساعة لحد ما وصلنا إلى أجدابيا، وهناك تم تسليمنا لمجموعة فى زلة، وإحنا خارجين متوجهين إلى المنطقة النهائية للمهربين فى بنى وليد تم إلقاء القبض علينا من قبل القوات المخصصة لمواجهة الهجرة غير الشرعية فى ليبيا وكان عددنا 130 واحد فى شاحنة كبيرة، ماقدروش يمسكوا المهربين، الوحيد اللى اتمسك معانا كان السواق».
وحول اختيار منطقة بنى وليد كمكان رئيسى لتجميع المصريين المهرَّبين إلى ليبيا، يقول «على»: «منطقة بنى وليد تعتبر المحطة النهائية للمهربين اللى بييجى عليها صاحب العمل الليبى عشان يدفع لى فلوسى وأروح أستلم منه الشغل، أنا صاحب العمل بتاعى بلغنى أنه هييجى يستلمنى من بنى وليد». يتابع على: «إحنا فعلاً أخطأنا أننا دخلنا البلد بشكل غير شرعى عشان شغلنا بس اللى عنده عيل صغير وأخطأ المفروض يقتله ولاّ يطبطب عليه، إحنا مش محتاجين إلا حاجتين بس إما يفرجوا عننا ونشتغل جوه ليبيا أو يتم ترحيلنا لأن قعدتنا هنا طوّلت، عائلاتنا ماحدش فيهم يعرف مكاننا إلا عدد قليل جداً اللى له ناس برة وعرفوا أنه اتقبض عليه أثناء تهريبه إلى ليبيا راح قال لهم ابنكم مقبوض عليه، كل اللى طالبينه الترحيل كفاية المعاناة اللى شُفناها على إيد المهربين».
لم ينته «على» من كلامه حتى قاطعه «أحمد السعيد» من محافظة المنيا، مؤكداً على كلام رفيق الاحتجاز بأن عائلته فى الصعيد لا تعرف مكانه حتى هذه اللحظة وأن آخر اتصال بعائلته كان من 45 يوماً مضت قبل إلقاء القبض عليه واقتياده إلى مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين فى منطقة الكراريم بمدينة مصراتة.
وذكر «محمد»: «أنا جيت هنا أنا وأغلب الناس الموجودة هنا عشان ظروفى، أنا شِلت كفنى على إيدى وأنا جاى هنا وكل ده عشان لقمة العيش أنا لو كان ليَّا خير فى بلدى ماكنتش جيت هنا، أنا لو كان ليهَا لقمة عيش فى بلدى ماكنتش فكرت أرمى نفسى كده، أنا قدمت حياتى قدامى عشان الناس اللى ورايا، أصبح دلوقتى اللى ورايا ما يعرفوش عنى إذا كنت حىّ ولاّ ميت». وأكمل الشاب العشرينى بنبرة حزن حادة غلبت على صوته: «إحنا كنا بنتعامل مع مافيا، مجموعة تسلمنا لمجموعة تحت تهديد السلاح، سافرت تهريب عن طريق السلوم ومنها إلى أجدابيا وبعدها وصلنا لزلة وكل مرة كنا بنلاقى العدد بيكبر فى الطريق، وأغلبنا كان مغلوب على أمره، يعنى لما واحد فيهم يرفع عليَّا سلاح فى الجبل عشان ياخد منى ورقى وفلوسى وتليفونى بأضطر أسلمه كل حاجة عشان أنجو بنفسى، إحنا كنا بنتعامل مع مافيا بس مفيش قدامنا غير الطريق ده، كنا مضطرين نستحمل لحد ما نوصل لبنى وليد وكل واحد يتفرق ويروح لمكان شغله، بس السلطات الليبية قبضت علينا قبل ما نوصل لبنى وليد، كل اللى بنطلبه من السفارة المصرية أنها ترحلنا، فيه ناس قاعدة بقالها 3 أشهر عقلها مابقاش فيها وفيه ناس أهلها عملت لها عزا فى البلد من كتر ما هما ما يعرفوش عنهم حاجة». الدخول إلى ليبيا بشكل غير شرعى لم يخطر يوماً ببال «بدوى محمد جنيدى» التاجر من محافظة الفيوم، الذى ذهب إلى أحد مكاتب العمالة وتسفير المصريين إلى الخارج، رغبة فى تصفية أعماله فى ليبيا، إذ أكد له المكتب بأنه سيحجز له طائرة سفر من القاهرة إلى الخرطوم ومنها إلى مطار معيتيقة فى طرابلس، إلا أن التاجر فوجئ بأن رحلته من السودان انتهت فى مطار الأبرق بالمنطقة الشرقية وليس مطار معيتيقة بمدينة طرابلس فى المنطقة الغربية وعندما أراد أن يستقل طائرة من الأبرق إلى معيتيقة، أخبرته السلطات الليبية بأن الطيران الداخلى ممنوع للأجانب وهو ما جعله يخرج من المطار ليجد أمامه سيارات واقفة أمام المطار، ستتحرك إلى طرابلس مقابل 150 ديناراً ليبياً.
ركب «مصطفى» السيارة أملاً فى التوجه إلى طرابلس إلا أنه فوجئ بالسيارة تتوقف فى منطقة أجدابيا بالمنطقة الشرقية والتى تبعد عن طرابلس فى المنطقة الغربية قرابة الـ500 كيلومتر، مردداً: «قُلناهم انتم إزاى تنزّلونا أجدابيا مش طرابلس، فكان الرد أننا مانقدرش نروح طرابلس، نزّلونا من السيارات وقعّدونا معاهم يومين، لقيناهم بعد كده بيركبونا سيارات تانية بالسلاح ولقينا نفسنا وصلنا إلى زلة، وبعد وصولنا إلى زلة ركبونا فى شاحنات كبيرة وتوجهوا بينا إلى منطقة بنى وليد عشان يسلمونا وياخدوا علينا دية».[ThirdQuote]
احتجاز «مصطفى» فى مركز إيواء للمهاجرين غير الشرعيين لا يجد له تفسيراً وخاصة أنه دخل البلاد بشكل رسمى مستوفى الشروط وحاصلاً على موافقة أمنية بالمرور، هكذا يقول مصطفى، متابعاً، «حالياً محتجز بقالى أسبوعين وماحدش يعرف مكانى ولا يعرف عنى إذا كنت حى ولاّ ميت». حكاية «بدوى» لم تختلف كثيراً عن «أحمد» الذى سلك الطريق نفسها عبر السودان ومنها إلى مطار الأبرق أملاً فى إيجاد عمل فى ليبيا وتسديد مبلغ الـ 17 ألف جنيه الذى استدانه من أشقائه، قائلاً: «أنا سافرت من القاهرة للسودان وبعدها سافرت إلى ليبيا ونزلت فى مطار الأبرق وهناك لقيت سيارات بتقول أنها بتوصل الناس إلى طرابلس وفوجئنا بأنها غيرت اتجاهها وسلمتنا لجماعة تانية كانت مسلحة وركبونا فى شاحنات الأسمنت الكبيرة ورصونا جنب بعضنا كان معانا فى الشاحنة حوالى 130 شخص تانى غيرنا».
أضاف الرجل: «أنا معايا إقامة سارية لحد شهر يونيو وشهادة صحية وكل أمورى ماشية، أنا جيت عشان أشتغل بس للأسف أنا اتمسكت فى منطقة اسمها الجفرة وكل فلوسى ضاعت لا أنا اشتغلت عشان أقدر أرجّع الفلوس اللى عليَّا ولا أنا رجعت تانى لأهل بيتى وأولادى».[SecondQuote]
شعبان رجب على، من محافظة المنيا، لم يكن الاحتجاز فى مركز الإيواء هو نتاج رحلته غير الشرعية إلى ليبيا وإنما رصاصة أصابت قدمه أثناء مطاردة لقوات فجر ليبيا لشاحنة من المهربين كانت ثمناً لهجرته إلى ليبيا.
فَسر الشاب العشرينى: «أنا كنت شغال فى ليبيا ونزلت مصر فى رمضان السنة اللى فاتت ومعايا إقامة سارية لحد دلوقتى، ولما قررت أرجع كان قرار منع المصريين تم تطبيقه وساعتها كان فيه واحد عندنا فى القرية قال لى إنه يعرف ناس من أولاد على يعرفوا ناس فى الجمارك ومنفذ السلوم يقدروا يعدّونا إلى ليبيا». أضاف الشاب: «بالفعل سافرت إلى السلوم ولما وصلت هناك لقيت الكلام اتغير وأنى بتعامل مع جماعات مسلحة دخلونا مساعد تحت تهديد السلاح من خلال عربيات دفع رباعى فى الجبل لحد ما وصلونا لأجدابيا وبعدها لزلة وأول ما وصلنا هناك ركبونا شاحنات كبيرة عشان نروح بيها لبنى وليد، وساعتها كانوا واخدين منا الجوازات وكل أوراقنا لحد ما نروح بنى وليد يسلمونا الجوازات وياخدوا 8 آلاف جنيه مقابل التهريب». تابع شعبان: «كنا 30 نفر حطونا فى السيارة وغطونا وبمجرد وصولنا لمدينة الجفرة، فوجئنا بالسلطات الليبية اللى حاولت توقف السيارة بس السواق رفض أنه يهدى أو يوقف لحد ما حصلت اشتباكات وجت رصاصة فى جنب العربية أصابت شخصين تانى غيرى، إصابتى كانت خفيفة أما الآخران فكانت إصابتهما خطيرة لذلك تم نقلهما إلى مستشفى مركزى فى مصراتة لتلقى العلاج، وكدت أدفع حياتى ثمناً للهجرة غير الشرعية».
22 يوماً هى عدد أيام احتجاز «شعبان» فى مركز الإيواء، هو و14 شخصاً من قريته «الجياد» التابعة لمركز العدوة بمحافظة المنيا، لا تعرف عائلته عنه شيئاً، بقدم مصابة وأمل فى العودة إلى بلاده مرة أخرى. احتجاز جماعات التهريب للمصريين المتجهين إلى ليبيا لم تخلُ من ممارسات وصفها «المهاجرون» بأنها ممارسة العدو للأسير، بحسب مصطفى عبدالباقى، من محافظة المنيا، قائلاً: «جماعات التهريب كانت بتتعامل معانا على أننا أسرى، أخدوا فلوسنا وجوازاتنا وكل أوراقنا، وكانوا بيحتجزونا فى أماكن غير آدمية من غير أكل أو شرب، الأكل ساعات كتير كانوا بيبيعوه لينا اللى معاه فلوس كان بيعرف ياكل واللى مش معاه مكانش بيشترى، بيبيعوا لنا الخبز بدينار واتنين، صحيح المعاملة فى مركز الإيواء كويسة على الأقل بيوفروا لنا أكل 3 مرات فى اليوم بس الواحد زهق من كتر القعدة ونفسه يروّح لأهله، كان نفسنا السفارة المصرية تسأل عننا وترحّلنا لمصر حتى لو إحنا اتحملنا حق تذكرة السفر».