إن التجمد الدينى الذى تعيشه أمتنا يرجع لأسباب كثيرة لا تعدو أن تكون أقداماً فخارية لقصور من الرمال، ولا تخرج عن كونها الأساطير المؤسسة للأوهام التى نحياها. ولعل أهم هذه الأقدام الفخارية هو التقليد المطلق للآراء والمذاهب والجماعات؛ فالتقليد عقبة كبرى أمام التجديد الدينى، وهو السبب فى بناء قصور من الوهم تعيق النظر والتواصل مع الواقع الحى، والمقلد لا يرى الفكر الدينى إلا بناء حديدياً غير قابل للتطور والتحديث، وغير قابل لإعادة الفهم وفق ظروف الزمان والمكان وما يستجد من أحوال أو يتبدل من متغيرات!
ولا ينسحب هذا النقد على العلوم الإنسانية والمذاهب الفقهية التى نشأت لفهم الدين فقط، وإنما ينسحب أيضاً على المذاهب اللادينية التى تفشل فشلاً ذريعاً عندما تتجمد ويصبح التقليد منهجها، والتفسير الحرفى المطلق وسيلتها، متجاهلة طبيعة التفكير العلمى وسنن الواقع. وعلى سبيل المثال فإن الماركسيين التقليديين يزعمون أن تعاليم ماركس وإنجلز ولينين إنما هى مبادئ وقواعد مطلقة تصلح لكل زمان ومكان! وقد اتهم الماركسيون الحرفيون المقلدون الفيلسوف الفرنسى روجيه جارودى عندما كان لا يزال ماركسياً، بالتحريفية لما حاول تجديد الماركسية واتهموه بالمروق عنها (يمكن الرجوع لكتابنا عن «جارودى.. نصف قرن من البحث عن الحقيقة»)، فالمقلدون حتى لو كانوا «لا دينيين» يحملون عقولاً تشبه فى طريقة عملها عقول المقلدين فى الدين! ولا يزال مقلدو الماركسية يعيشون فى أوهامهم على الرغم من أن التجارب أثبتت فشل الماركسية الأصولية الذريع حتى فى مواءمة ظروف العصر الذى نشأت فيه: النصف الثانى من القرن 19، والنصف الأول من القرن 20. وذلك فى الاتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية، بل وفى بعض البلدان العربية. فما بالنا بالفشل الذى ستُمنى به لو طُبقت فى عصور أخرى دون أن يطرأ عليها تطوير جذرى!
إن الرجال الذين تربوا على رؤية «الإسلام الأول» للعالم، وما انبثق عنها من نظريات فى المعرفة والبحث عن الحقيقة، أدركوا أن الجهد البشرى «نسبى» فى إدراك الحقائق، وأنه لا أحد يملك الحقيقة كلها. وأدركوا أن الحق يُعرف بذاته لا بالتقليد، قال ابن عبدالبر: «إنه لا خلاف بين أئمة أهل الأمصار فى فساد التقليد». وذكر ابن القيم عن أبى حنيفة وأبى يوسف أنهما قالا: «لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه»، وهذا تصريح بمنع التقليد، لأن من طلب الدليل فهو مجتهد يأخذ بالحجة وليس بالقول وحده، أما المقلد فهو الذى يقبل القول ولا يطالب بحجة.
إن القرآن ضد فكرة التقليد بحجة التقليد فى حد ذاتها دون برهان حاسم، فالحق مقياس نفسه، وفق معايير الواقع والعقل البرهانى والوحى المبين، واليقين المستند إلى التقليد مرفوض وضد نصوص القرآن الذى يرفض بوضوح تقليد السابقين دون الاستناد إلى براهين محكمة تحمل الحق فى ذاتها، فقال: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ» (لقمان: 20 - 21). «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» (البقرة: 170- 171). وانتقد القرآن الكريم بحسم الذين «قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» (الشعراء: 74).
إن المرجعية النهائية فى الدين ليست لأية سلطة سوى كلمة الله التى اكتملت باكتمال نزول القرآن الكريم، وسنة النبى التى جاءت بوحى إلهى، وثبتت نسبتها إليه، دون الضعيف والمرسل والمنقطع والموقوف والموضوع.. إلخ.
والمصيبة كلها نشأت عند ظهور الصراع السياسى على السلطة ونشأة الخوارج. لكن الصحابة والأئمة على موقف واحد فى نبذ طريقة المقلدين والخوارج فى كل العصور الذين يؤكدون معتقداتهم وآراءهم عن طريق دعمها بسلطة أمراء الجماعات أو الآباء أو الأجداد أو المفكرين أو العلماء أو غيرهم من أصحاب السلطة، وهذا ما سماه الفيلسوف الإنجليزى فرنسيس بيكون «أوهام المسرح»، وهى الأوهام التى تنشأ عن الاعتقاد فى صحة كل ما يقوله القدماء، حيث يعتقد بعض الناس أن القديم كله صحيح لمجرد أنه صدر عن فقيه كبير من الفقهاء أو فيلسوف كبير من ذوى الأسماء الكبيرة فى تاريخ الإنسانية. والناس يخطئون عندما يتلقون آراء القدماء دون تمحيص ونقد. ويرى بيكون أنه لا بد من النظر إلى نظريات القدماء ومذاهبهم على أنها تشبه المسرحيات؛ فكلاهما مخترع ولا علاقة له بالواقع الفعلى (The Philosophical Works of Francis Bacon).
هكذا تلتقى كلمة العقل مع كلمة الوحى مؤكدة أن الماضى «ليس بذاته وفى ذاته حجة»، وكل المقلدين يخطئون عندما يقفون عند حجة الماضى المتهافتة، ومنطقهم الأعوج ينطق ببطلانه: «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ» (الزخرف: 23- 25).