أمريكا -فيما أعلم- هى البلد الوحيد فى العالم الذى يمنح المرأة حق طلب الطلاق بسبب «القسوة العقلية» للزوج.. وقد ذاعت شهرة هذا السبب فى خمسينات القرن الماضى، عندما قام «جوى دى ماجو»، لاعب البيسبول، بتعنيف زوجته نجمة هوليوود الشهيرة «مارلين مونرو» بسبب موافقتها على تصوير مشهد فى محطة قطار أنفاق نيويورك وهى ترتدى فستاناً أبيض قصيراً لفحه الهواء من أسفل ورفعه إلى أعلى كاشفاً عن كل ساقيها. وأمام مبالغة الصحافة الأمريكية عام 1954 فى تكرار نشر صور «مارلين» من زوايا عديدة عارية من الأسفل تكرر غضب الزوج وتقريعه وتوبيخه للنجمة الشهيرة التى لجأت إلى القضاء وحصلت فعلاً على «الطلاق» بسبب «القسوة العقلية» لزوجها.
بعد ذلك مباشرة انتقل مصطلح «القسوة العقلية» إلى دراسات وأبحاث علماء النفس والاجتماع والاقتصاد، وعثر حشد كبير من المبدعين والمفكرين والباحثين على فيض غزير للكتابة فى توصيف «القسوة العقلية» ونتائجها الكارثية على العمال والموظفين فى أماكن العمل، ودورها فى تحديد نوعية الإنتاج كماً وكيفاً. وكان من أهم أسباب انتشار هذا النوع من الدراسات عن دور «الإدارة» فى نجاح الشركات وإرضاء العاملين هو الخوف الشديد فى المعسكر الرأسمالى من الزحف الاشتراكى والشيوعى فى شرق أوروبا، والفزع من وصول الأفكار الشيوعية إلى قلب المعسكر الرأسمالى ذاته، وقد لجأت الدول الغربية إلى أقصى ما يمكنها من عدالة توزيع الأرباح ومن تعميق شبكات الضمان الاجتماعى والصحى والترفيهى لكل العاملين والموظفين حتى تفوِّت الفرصة على المعسكر الاشتراكى وتمنعه من نشر أفكاره بين العمال والموظفين والفلاحين فى قلب المعسكر الرأسمالى.
وهناك شبه إجماع بين كبار الاقتصاديين على أن النصف الثانى من القرن العشرين كان هو الربيع الحقيقى للعمال والموظفين فى العالم كله، وكان هو العصر الذهبى لاختيار مديرين على أعلى مستوى من كفاءة الإدارة، وكانت معايير الكفاءة تدور حول القدرة على اتخاذ القرار المناسب، والعدالة فى معاملة المرؤوسين وتشجيع المجتهدين، ومعالجة سلبيات المقصرين وزيادة الإنتاجية كماً ونوعاً، وسرعة حل الأزمات عبر لجان التفاوض المرضى لكل الأطراف، ولم يكن من بين هذه المعايير أبداً ما نعرفه عن المدير المصرى من قلة الذوق والقسوة العقلية والانحطاط الأخلاقى والكذب والغدر والصلف والغرور الأجوف. هذه المواصفات العريقة فى «المدير المصرى» هى التى دفعتنى للتوقف طويلاً أمام حديث الرئيس عبدالفتاح السيسى أثناء زيارته لمصانع القوات المسلحة عن ضرورة أن يلامس المدير المسئول أحوال مرؤوسيه، وأن «يطبطب» عليهم إذا لزم الأمر. وقد لاحظت أن ما قاله الرئيس أصبح فوراً مثاراً لنقاش مستفيض بين الناس وبعضهم فى أماكن العمل، وعلى صفحات التواصل الاجتماعى، ولاحظت أن البعض تعامل مع الأمر بقدر من «التهكم» على اعتبار أن أحوال العمل والعمال فى مصر فى حاجة إلى ما هو أهم من الطبطبة، وأن معظم المديرين لا يصلحون من الأساس لتولى أى مسئولية، بل إن بعضاً من أكثر الناس تأييداً للرئيس ذهبوا فى التعليق على حديثه إلى أن «العمل» فى مصر يحتاج إلى شىء من الصرامة، وليس الطبطبة، حتى تنصلح الأحوال.
والذى حدث أننى فكرت طويلاً فيما قاله الرئيس، وفكرت طويلاً فى رد الفعل على ما قاله، واكتشفت أننا كشعب عامل، لم نعرف طيلة حياتنا فى أماكن العمل غير «المدير» غير الكفء من الأساس، ولم نطالع فى وجوه هؤلاء المديرين غير انعدام الشرف والمروءة، ولم نصادف فى أدائهم غير الصلف والغطرسة وقلة الذوق والظلم والفساد. كما اكتشفت أن ما نعرفه عن الترهل والتسيب وانعدام الانتماء فى معظم أماكن العمل هو مجرد رد فعل عادل ومنطقى من العمال والموظفين، فى مواجهة مدير جاهل ومتغطرس، يتعمد التعامل بقسوة وغلظة مع كل من يقع تحت مسئوليته الإدارية، حتى لا ينكشف بجهله وتفاهته أمام مرؤوسيه.
إن أبسط تعريف للقسوة العقلية التى يعترف بها القانون الأمريكى كمبرر للطلاق بين الزوجين، هو أنها تلك المعاملة التى تجعل شخصاً يعانى نفسياً دون أن يُمارَس ضده أى عنف بدنى ظاهر.
والحقيقة أن المعاناة النفسية التى تراكمت عبر عقود طويلة فى أماكن العمل فى مصر، بسبب انحطاط أخلاق المديرين، خلقت مناخاً مريضاً كفيلاً بإمراض وتحطيم معنويات أكثر العاملين كفاءة وإخلاصاً، ولم يعد هناك أدنى شك فى أن المدير القاسى الفاسد والمتغطرس هو أهم أسباب انهيار الإنتاج وإفلاس الشركات.. وأن بداية الإصلاح وبداية النهوض والتعافى من كل هذه الأمراض هو المدير الكفء القادر على جبر خواطر مرؤوسيه.