كل أوراق اللعب فى يد أمريكا.. العاصى قبل الطائع يمتثل لأوامرها حتى فى أقصى حالات الشطط والخروج على المخطط المرسوم مسبقاً، وفى الغالب لا يعلن، حيث يتم التنفيذ ويصبح أمراً واقعاً تفرضه معادلة القوة التى تحتكرها الولايات المتحدة الأمريكية وتدور فى فلكها دول تظن نفسها شريكاً فى صناعة سيناريوهات إدارة الصراعات الدولية على غير الحقيقة.. الكل تابعٌ ينفذ ما يملى عليه ولا يُسمَح لأحد بالخروج على النص المكتوب بحروف أمريكية لا يجوز مجرد التفكير فى مخالفتها.
الحليف الاستراتيجى الأول فى العالم مسموح له بارتكاب كل الجرائم ويتلقى كل الدعم ويُمنَح أحدث الأسلحة ويُسمَح له بالخروج على النص دون إخطار أحياناً، وطبعاً دون حساب.. إسرائيل فوق القانون الدولى ولا تحسب حساباً لأحد، العالم كله تحت إمرتها ولا ضرر من بعض الأصوات العالمية ضدها طالما بقيت فى حدود الظواهر الصوتية ولم تترجم إلى إجراءات على أرض الواقع.
العدو الإيرانى عليه أن يسير وفق قواعد اللعب الأمريكى ويسمح له ببعض التصرفات والمواجهة المحسوبة لا أكثر ولا أقل، تعرف إيران أنها وسط محيط معادٍ من كل جانب ولا حليف لها فى المنطقة سوى أصابعها فى اليمن ولبنان وسوريا وبعض الفصائل العراقية، وهى تجيد تحريك الأمور بما يحقق مصالحها فى الوقت الذى تتمتع فيه بقدرات خارقة على ضبط النفس رغم الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ولا تسمح بتوريطها فيما لا تريد، وتُحسن اختيار توقيتات التدخل المباشر أو عن طريق وكلاء المنطقة.
الهجوم الإيرانى ومشاركة دول بعضها عربية فى التصدى للمسيّرات والصواريخ الإيرانية لا يقلل من حقيقة القدرات الإيرانية التى لولاها ما تجرأت على المواجهة المباشرة وقصف أهداف إسرائيلية، ولم تبالغ إيران فى ردها مستندة إلى تحالفاتها الدولية متمثلة فى روسيا والصين على خلفية دورها فى الحرب الأوكرانية، حيث أدركت أن أقصى ما يستطيعونه الصمت أو التصدى الدبلوماسى لمحاولات الإدانة واستصدار قرارات دولية ضدها.
ليس من الحكمة التقليل من أهمية الحدث وخطورته فى ظل ارتباطه بالإبادة الجماعية الجارية فى غزة، لكنه يبقى ضمن تجاذبات العلاقات الإيرانية الأمريكية بل ويزيد مخاوف الغرب من تنامى القدرات العسكرية الإيرانية.
كل طرف أعلن من جانبه أنه صاحب الانتصار فى هذه المواجهة المحدودة، إيران استطاعت الوصول لأهداف عسكرية محددة وفق ما خططت له بما لا يسمح بالحرب المفتوحة، وإسرائيل اعتبرت ما حدث إحباطاً ناجحاً للهجوم الإيرانى، ومكسباً استراتيجياً قد يغنيها عن رد عسكرى غير محسوب العواقب، وفشلاً إيرانياً ذريعاً.. فى كل الأحوال لم ينتصر ولم يُهزَم أحد، وبقيت احتمالات الرد المتبادل قائمة ولم تهدأ المخاوف من التصعيد المحتمل.
الموقف الأمريكى والأوروبى الداعم لإسرائيل كشف عن قوة التحالف رغم الاختلافات السياسية المعلنة بخصوص ما تقوم به فى غزة، بخلاف الموقف الدولى الهش من الاعتداء على القنصلية الإيرانية بما فى ذلك القوى الدولية التقليدية التى غابت عن المشهد حتى فى أضعف صور التعبير بالتصريحات المعتادة والمتوقعة فى مثل هذه المواقف.
الشعوب العربية المتعطشة لأى إجراء من شأنه إلحاق خسائر بدولة العدوان أصيبت بصدمة واعتبرت ما حدث دون سقف أحلامها بكثير وتحولت وسائل التواصل الاجتماعى إلى ساحات مواجهة لفظية مع وضد، حيث اعتبر البعض ما حدث تمثيلية هزلية، فيما اعتبره فريق من الجمهور بداية تغيير معطيات المنطقة ودخول إيران على خط المواجهة وفق معايير تحددها بنفسها.
كل المؤشرات تؤكد أننا أمام مرحلة متجددة من السيطرة الأمريكية على كل الأطراف بحسابات المصلحة الأمريكية المطلقة وإن ظهرت بعض القوى الإقليمية فى صورة العدو إلا أنها تخضع بشكل أو بآخر للتأثير الأمريكى وفق حدود وأسقف وُضعت بشكل مسبق للصراعات ولا يُسمح بتجاوزها للحلفاء، فما بالنا بمن يُفترض أنهم أعداء يمثلون خطراً على مصالح القوة الحاكمة والمتحكمة فى العالم أجمع.
الجديد القديم فى المسألة والذى يجب أن يدركه الجميع؛ أن كل شىء فى هذا العالم يُدار وفق الرغبة المطلقة لمن يملك القوة، وهو ما يعيدنا إلى إدراك القيمة الحقيقية لكل القوى المزعومة عالمياً وإقليمياً دون مبالغة فى تقديراتها وقدرتها على إحداث الفارق أو خلق متغيرات تعيد تشكيل السياسات الدولية بما يغير مساحات النفوذ التقليدية ومواقعها.
نحن أمام مشروعات حضارية بقدرات عسكرية متفاوتة فى حالة صراع تستحضرنا كعرب وقتما شاءت وتصرفنا عند اللزوم «غزة على سبيل المثال الحاضر»، وهو ما سيستمر إلى أن نتمكن من امتلاك عناصر القوة التى تمكننا من الدخول كطرف فاعل.. عندها فقط سنترك مقاعد المتفرجين ونشارك فى صناعة مستقبلنا ومستقبل العالم الذى نعيش فيه.