أتابع -كغيرى من المصريين- منذ سنوات، تراجع أداء وزارة الثقافة على اختلاف وزرائها الذين لا يزيدنا تغييرهم إلا تدهوراً يوماً بعد الآخر. وأتعجب لماذا لا تضع الدولة الثقافة على قائمة أولوياتها رغم تنوع منابعها وتأثيرها وقدرتها على تجديد وتغيير الواقع، لتكون سهماً يقتل الإرهاب ويطور النفوس والعقول والوعى؟
لا أريد رداً رسمياً يدعى العكس بادعاء أن ثقافتنا بخير والقائمين عليها يدركون تفاصيل المرحلة الدقيقة التى نحياها بين أن نكون أو لا نكون، ويبذلون جل جهدهم لاستعادة قوة مصر الناعمة عبر ثقافتها بشتى صنوفها. فذلك ادعاء غير حقيقى، خصوصاً فى ظل أداء متواضع لوزير ظن أن معارضته للإخوان كافية للترويج له، وتعرضه لموقف أثناء فترة وجودهم بالحكم كفيل باحتوائه المنصب.
ودعونى أفسر يا سادة مقاصد حديثى ببساطة فى الحالة الثقافية المصرية التى لا أتحيز لها عن ضلال لكن عن أصل يعلمه العارفون بثقافتنا وتاريخها وقوتها المستندة منذ قديم الأزل على الأخلاقيات والاحتواء والمرونة والاتساع وفى ذات الوقت عدم التفريط فى أساسها الذى تمتلكه، بشكل سمح لنا منذ قديم الأزل بالتفرد فى العالم بميزة احتضان الآخر وثقافته ودمجها برصانة فى ثقافتنا ثم إنتاج منتج ثقافى جديد يؤثر فى الآخر أياً كانت هويته من دون طمس ماضينا.
فكل من جاءنا غازياً أدرك تلك النقطة وسعى لكسبنا من خلالها وركن لثقافتنا أياً كانت قوة المصدر المنتمى له أو المقبل منه. خذ مثلاً الإسكندر الأكبر الذى فتح العالم القديم مقبلاً من بلاد اخترعت الآلهة وخلقت أساطيرهم ودونتها وخلدتهم، لكن ما إن جاء مصر حتى احتضنته طبيعتها وحضارتها فتقرب من آلهتها فى هليوبوليس ومنف وتم تعميده فى معبد آمون فى واحة سيوة المصرية وأعلن من هناك أنه ابن الإله آمون. وتذكر حكام الدولة الفاطمية الذين فتحوا مصر لنشر المذهب الشيعى فبنوا له أزهرنا فلم يتشيع المصريون ولم يحيدوا عن المذهب السنى لكنهم عشقوا آل البيت ومنحوهم الاحترام والحب والتقدير والمكانة بشكل لم يحدث فى مكان آخر وصار آل البيت أولياء الله فى مصر.
واتبع حركة المماليك الذين أتونا عبيداً فصاروا فى بلادنا فرساناً وأمراء وملوكاً منحتهم مصر عزاً ومنحوها تاريخاً مليئاً بالأحداث وأطلق عليهم المصريون لفظة «ولاد ناس» رغبة فى توصيفهم بأنهم مجاهيل بلا نسب وخوفاً من بطشهم وتنكيلهم بالمصريين إن علموا بسخريتهم منهم. وتابع نابليون الذى ظن أن التظاهر بالاستكانة لثقافة المصريين وعقيدتهم سبيله للسيطرة عليهم، ولم يكتف بذلك بل جاء لمصر بعلماء بلاده فى كل التخصصات لدراسة تاريخها وفك طلاسمه وتوثيق الأحداث بها فكان كتاب حملته «وصف مصر» وكان اكتشاف حجر رشيد وفك رموزه فيما بعد على يد شامبليون. وقائد حملته جاك فرنسوا مينو الذى أسلم كى يتزوج من زبيدة البواب ابنة رشيد. ومحمد على الجندى الألبانى الأمى الذى منح عمره لبناء مصر بحق فى عصرها الحديث ولا ينم ما فعله بها وما تركه من أثر عليها إلا عن حالة عشق متفردة جعلته يمنحها كل ما منحها. وفكر فى الإنجليز الذين فرضنا عليهم لغتنا فتحدثوها بحروفهم، ولم يفرضوا علينا لغتهم التى فرضوها على كل مستعمراتهم. وفكر فى موزاييك الثقافة المصرية الدامج بين الفرعونى والبطلمى واليهودى والمسيحى والإسلامى وتأمل برفق فى حالة السماحة الحاضنة لكل هذا، المنتجة لكل إبداع معمارى وفنى وأدبى. واستمتع بفنون التحطيب والتنكيت والخطابة، وترتيل القرآن بأصوات لم يأتِ بمثلها ولا أوزان ما قرأوا به فى إيقاعات القراءة، وفنون التواشيح الرائقة المنوعة، وإبداعات موسيقية تختلف من شادية وعبدالحليم للست وموسيقار الأجيال. تلك هى ثقافتنا التى لا يدرك أهميتها القائمون على الحكومة فيظنون أن اختيار أى وزير كافٍ لسد الخانة دون أن يعلموا أن قوة مصر الحقيقية فى الحفاظ على ثقافتها لمواجهة تيارات المد الوهابية والإرهابية. فهل من وقف لإهدار ثقافتنا واستعادة مكانتها؟