منحتنا الدراما المصرية هذا العام عملاً مُهماً ومؤثراً هو مسلسل "الحشاشين"، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن أهمية هذا العمل لا تتعلق بالإخراج البارع، أو التوظيف الجيد للتقنية في العناصر الفنية، أو حتى براعة الممثلين، فقط، لكنها تتعلق أيضاً بالجرأة الفنية في تناول الأبعاد الفكرية التي تنطوي عليها القصة.
فثمة الكثير من الأعمال التاريخية التي قدمتها الدراما المصرية على مر تاريخها؛ وبينها ظهرت علامات مُشرقة ما زلنا نتذكرها. وفي العقدين الأخيرين تحديداً، ظهرت ملامح تجربة درامية متكاملة على أيدي شركات إنتاج عربية، وظفت قصصاً تاريخية مُهمة في أعمال حظيت باحترام وتقدير كبيرين.لكن ما فعله صُناع "الحشاشين" يظل اختراقاً في هذا الصدد، لأنه ألقى الأضواء الكاشفة على عوار مستديم في أنماط من الفكر الديني، وعالج بشجاعة فكرة الاستخدام المُغرض والمُسيء للعواطف الدينية في الاحتيال على الناس، بل وقدم تأصيلاً فنياً بارعاً لفكرة الإرهاب المتوسل بالتأويلات الدينية، وهو تأصيل سيشرح لمشاهدي هذا العمل، من الأجيال المختلفة، الفكرة الخام التي استند إليها الإرهابيون المستندون لدعاوى دينية في تحقيق أهدافهم.
فحسن الصباح ليس شخصية شاذة أو نادرة في عالم التأويل الديني المُغرض، وجماعة "الحشاشين" ليست ظاهرة تاريخية فريدة، بل هي واحدة من عديد الجماعات التي سعت السعي نفسه، على مر التاريخ، وفي عديد البلدان والقارات، وحتى يومنا هذا.فالتاريخ لم يتوقف أبداً عن تسجيل الأمثلة على بعض الجماعات التي أظهر أعضاؤها طاعة مماثلة لأدعياء مُختلين مثل حسن الصباح؛ ومنها "الطائفة الجبلية" في تركيا في القرن الثاني، وطائفة "تجديد التعميد" في هولندا في القرن السادس عشر، و"السبتيين" في أزمير في القرن السابع عشر، و"فرقة يوم الحساب" في شيكاغو في القرن الماضي.
ولكي نفهم الأساليب التي تتبعها تلك الجماعات لاستقطاب الأتباع والحصول على ولائهم المُطلق وطاعتهم العمياء، علينا أن نطّلع على النتائج التي توصل إليها فريق بحثي من جامعة "مينيسوتا"، في الستينيات الفائتة، حين استطاع أفراده أن يتنكروا ويخترقوا "فرقة يوم الحساب"، ويعيشوا بين أعضائها كجزء منها، بغرض دراسة أفكارهم وسلوكياتهم.كانت فكرة "فرقة يوم الحساب" الرئيسة تقوم على أن أعضاء الجماعة "أطهار وأبرار وربانيون وأعلى أخلاقياً ودينياً من الآخرين"، كما "الحشاشين" تماماً، ولذلك فإن ربهم سيضرب العالم بطوفان سيُغرق الكرة الأرضية، لكنه سيخصهم بأطباق طائرة، ستأتي في منتصف ليلة محددة لتلتقطهم، وتأخذهم إلى الخلاص، ليعيشوا في عالم أفضل.يقول فريق "مينيسوتا" إن الجماعة كانت تضم أشخاصاً مأزومين نفسياً، وتقوم على نظام "السمع والطاعة"، وإن قادتها كانوا يزعمون أنهم "يتلقون كتابة ربانية تحمل الأوامر والتعليمات التي يجب اتباعها بصرامة"، وأن أعضاء الجماعة كانوا أسرى تماماً لكل فكرة أو أمر يأتيهم من قيادتهم.على أي حال؛ فقد أفادت "الكتابة الربانية" المزعومة، أنه تم تحديد يوم الطوفان، ومن ثم هبوط الأطباق الطائرة، والتقاط أفراد الجماعة، وأن هذا سيحدث عند منتصف ليلة اليوم المحدد تماماً، وتم تزويد الأعضاء كذلك ببعض الطقوس والممارسات التي يجب الالتزام بها لضمان "عملية التقاط ناجحة".يقول فريق "مينيسوتا" إن أفراد الجماعة أمضوا اليوم المحدد لوصولهم إلى الخلاص في حالة من التفاؤل والسعادة البالغة، وأنهم حرصوا على قراءة "نصوص ربانية" تم تزويدهم بها من قبل القادة.لكن أعضاء الجماعة ظلوا منتظرين ساعات طويلة بعد الموعد المحدد للطوفان وقدوم الأطباق الطائرة دون جدوى، وأخذ بعضهم يصرخ بمرارة موجهاً نظراته الحادة إلى قادة الجماعة: "إنها إذن كذبة كبيرة"، فيما راح آخرون يقترحون أنه ربما كان هناك خطأ في قراءة نص "الكتابة الربانية"، وأن اليوم المحدد للطوفان لم يحن بعد.كانت الأجواء عصيبة للغاية، وانتاب أعضاء الجماعة شعور مُركب من اليأس والذهول والإحباط الشديد، وراح البعض يضرب رأسه في جدار المستودع، الذي تجمعوا فيه انتظاراً للأطباق الطائرة، فيما توجه آخرون لمعاتبة قادة الجماعة.يثني فريق "مينيسوتا" على "سرعة بديهة" بعض هؤلاء القادة ثناءً كبيراً، ويطعن في عقل أفراد الجماعة "المأفونين"؛ إذ يقول إن القادة أفادوا بوصول رسالة "ربانية" تفيد أن رب الجماعة قرر العفو عن البشرية بسبب إخلاصها وإيمان أعضائها.لكن الرسالة تشير إلى أن ذلك العفو مشروط ببقاء الجماعة متماسكة وملتزمة بالطقوس الإيمانية، وأن موعداً جديداً لـ "الخلاص" سيتم تحديده في وقت لاحق بناء على التطورات.
يستغرب فريق "مينيسوتا" كثيراً لأن عدداً كبيراً من أعضاء الجماعة، الذين رهنوا مقدراتهم للفكرة الخائبة، واكتشفوا أنهم تعرضوا لخدعة كبيرة من آفاكين أدعياء، لم يفتكوا بالهيئة القيادية، ولم يتركوا الجماعة ويثوبوا إلى رشدهم، بل ظلوا مرابطين في انتظار "الأطباق الطائرة"، التي ستحملهم إلى "المعنى الأعلى"، الذي لن يبلغوه أبداً بطبيعة الحال.ولذلك، فقد توصل فريق البحث إلى أن الأفراد المنقادين، الذين يكتشفون تورطهم بالكامل في مُستنقع التأويل المُغرض، يفضلون عادة الاستمرار "ضمن القطيع"، حتى لو كان سيأخذهم إلى حتفهم، عن أن ينشقوا ويصارحوا أنفسهم بأنهم كانوا "بلهاء ومخدوعين".
وهذا التحليل بالذات يمكن أن يشرح لماذا استمرت جماعة "الحشاشين" عقوداً، ولماذا زاد تأثيرها السياسي والديني، ولماذا كان مسلسل "الحشاشين" عملاً مُهماً ومُميزاً.