أحفظ عن ظهر قلب كل الأعمال التى أبرزت دور الصحفى، منذ كنت طفلة وتعلق حلمى بالصحافة، أتابع المسلسلات والأفلام وأتخيل نفسى موضع الأبطال، قبل أن يتحقق حلمى وأصبح صحفية بالفعل، فأعيد تصنيف كل الدراما التى حملت شخصية الصحفى، قليلها اقترب من الحقيقة، وكثيرها كان أقرب للكوميديا أو للخيال العلمى، ولعل عزمى وأشجان كانا النموذج الصارخ فى تشويه الدراما للواقع، ولعل «تشويه» لفظ أقل مما أحدثته أشجان فى صورة الصحفيين.
عشت صراعات عدة، كلها فى خيالى، أغمض عينىّ، وأمتطى جواداً، لم يكن لى، أمسك سيفاً وأصارع وحشاً، أهبط على جبل فأحيله تراباً، قبل أن تتفتح عيناى على الواقع، ابتسامة متعة تترجم كل شىء، أميل إلى أوراقى وأرسم عوالم موازية، أكتب نهايات أخرى، أطور فى شخص البطل وقد ألغيه تماماً، أو أضعه فى صراع آخر هو أجدر به، لا أترك ما رأيت على حاله، أحيله بقليل من الجهد إلى حال أعتقده أفضل، فأصير جزءاً مما شاهدت، على الأقل بتصرف خيالى فيه.
عشت صراع يحيى، ابن المؤذن فى دراما الحشاشين، فى أوراقى لم يكن ليموت، وقفته الشامخة وتسليمه بالقدر وثقته بخالقه وقوة إيمانه، قبضة يده على مسبحته، كلها لمست قلبى، تعلقت عيناى على رأسه وهى تطير، وذهبت إلى أوراقى لأغير دوره، كيف لهذا الشاب أن ينتهى هكذا، لقد صارع أهوالاً أشد وأخطر، لم يهزمه حسن الصباح بفساد منطقه وعقيدته، لم يرضخ أو يهن فى كل الاختبارات التى وقع فيها، لكن الهزيمة أتته مباغتة، من بوابة الثقة التى أضاعت السلطان حين سلم قراره لغيره.
قتل الصباح فيما قتل الجميع بشراً وأفكاراً وثوابت، لم يترك شيئاً على حاله، بعضهم رماه من فوق القلعة، وبعضهم رمى نفسه فى حضن أوهامه بأن قدم روحه فداء لصاحب مفتاح الجنة، خان الصديق صديقه، وتخلت الزوجة عن زوجها، وقفز الابن من مركب أبيه، وزعزع مفهوم الثقة والولاء، فعل كل شىء، لم يُبْقِ فى رحلته إلا على قيمة واحدة، فكرته وحسب، حتى إنه حين انتهى، عاشت فكرته وبقى أسلوبه حياً مستمراً، يتطور مع الزمن، لكنه لا يفنى ولا يستحدث من عدم.
رأيت حسن الصباح حولى فى كثيرين، أنزع نفسى من المكان وأنفصل عن الزمان، وأكتب كيف أواجههم، وقبل أن أحسم نهاياتهم، يقفز فى وجهى مشهد رأس يحيى وهو يطير، أتحسس رقبتى وأعود إلى واقعى، لعل عبدالرحيم كمال أراد الوصول إلى هذه الحقيقة، هذا الفكر لا نهاية له، هذا الفكر مدفون فى الأرض، كما اللغم يصيب من يمر عليه، نهاية الصباح قبل مئات السنوات لم تكن إيذاناً بنهاية فكرته، عاشت وتمددت وارتدت أثواباً عدة وتحدثت لغات ولهجات، وفى كل ظهور لأى يحيى يبغى المواجهة، يلقى المصير المحتوم.
انتهت القصة، ختمت الدراما اللوحة بلفظة النهاية، لكن بقى للعقل استمرار، لم يكن مجرد مسلسل ولا عمل درامى رمضانى، تشاهده وأنت تروح عن معدتك المتخمة بصنوف الطعام، كان وما زال نقطة فاصلة فى كل شىء، اتكأت على ورق قليلاً ما يتكرر فى زمننا هذا، تركيبة لا يأتيها إلا محترف، أخرج الدراما من رحم التاريخ، وصاغ العبرة الثابتة والمتغيرة، من أحب الصباح كرهه، ليت من أحبوه فى الواقع قبل الزمان بزمان عرفوا الحقيقة مبكراً، كانوا كرهوه مثل مشاهدى المسلسل.. ليت من التهمته فكرة، عرف كيف كانت صورته وهو فريسة.. وليت من يتصور أنه ماضٍ وولى، يعرف أن التاريخ كَرَّات ودورات، وأن ما يحدث من مئات السنوات، يتكرر كل يوم بتصرف بسيط، لا يزيد عن تحديث التاريخ وتغيير الشخوص والأسماء.
وبحسبة أخرى، يقع «الحشاشين» فى مرتبة لا ينازله فيها أحد، بورقه وأبطاله وشخوصه وإخراجه وتصويره، مرتبة تفضح ما دونها، وتعلى من الطموح فى النظر إلى الدراما المصرية، مرتبة عالية تخلينا عنها قبل سنوات بأخطائنا، وها نحن نستردها بما هو أعلى منها، ولا خيار ثالث، إما الحفاظ عليها والانطلاق منها، أو العودة إلى حضيض لا يليق بنا ولم يُصنَع لنا من الأساس.. ولأننا سرنا فى المسار الأول، قبل حتى عرض «الحشاشين»، منذ الإمام الشافعى ومليحة وتحت الوصاية وغيرها من الأعمال المنتجة على مدار العامين الآخرين، فإن مقاومة أى محاولة للعودة هى الحرب الجديدة والشرسة التى يتوجب على صناع الدراما خوضها.. حرب نهايتها مكتوبة قبل أن تقرع الطبول، النصر لنا.