تتغلّب الرسالة وتوقيتها أحياناً على المعايير الفنية، ويتربع الحدث فوق الجماليات والفنيات، وهنا تظل القضية العنصر الجاذب والمشوِّق، فمهما غمرتنا الدراما الرمضانية بحرفية كتابها، وبراعة مخرجيها ونجومها، وتكامل عناصرها الفنية، يبقى الجنان مشدوهاً لحرب الإبادة الأبشع، ولعدوان يمارس أقذر أساليب الحرب الوحشية، ولمعركة تنتهك القوانين الإنسانية ضد شعب محتل ومحاصر، يتعرض لأفظع أنواع المجازر والدمار والتنكيل والتجويع والتهجير، وتظل الألباب تتوق لعمل يدعم أصحاب القضية، وينقلنا إلى قلب الأحداث وأَصْل الصراع، ويبقى الوجدان يَنزع لدراما تحمل رسالة للعالم تكشف الحقيقة، وتصحح مفاهيم أجيال لم تعاصر بداية المؤامرة.
جاء مسلسل «مليحة»، للمخرج «عمرو عرفة»، فى النصف الثانى من الشهر الكريم ليغدق علينا من الحاضر والماضى صفحات لا تُنْسَى، ويوثِّق أحداث مؤامرة دنيئة، ومكيدة خسيسة حيكت بليل، لسرقة وطن ونهب أرض وإبادة شعب، ونكبة تواطأت فيها أيادى الغرب المحتل مع العصابات الصهيونية الدموية، وتآزرت مع الحركة الصهيونية لاحتلال دولة فلسطين وإنشاء كيان مغتصب فوق أرضها، وتوفير الدعم المالى والمعنوى لهذا الكيان الصهيونى المحتل على مدى أكثر من 7 عقود، غضّ خلالها العالم البصرَ عن التنكيل والتعذيب والنهب والسلب الذى تعرض له أصحاب الأرض، وتعامى الضمير الإنسانى عن المذابح والمجازر والمآسى التى لم يعرف مثلها شعب آخر فى العصر الحديث!!
تجسدت الرسالة داخل عمل درامى، يتمحور حول المؤامرة الصهيونية، وخيوط درامية لشخصيات تعبر عن المأساة التى يعيشها الفلسطينيون، يتقاسمها نجوم وفنانون من مصر وفلسطين والأردن ولبنان، وهى المرة الأولى التى تتناول فيها الدراما التليفزيونية عملاً تدور أحداثه الأساسية حول القضية الفلسطينية، من خلال قصة فتاة فلسطينية، رحلتْ عن أرضها مع عائلتها إلى ليبيا، بعد أحداث انتفاضة الأقصى عام 2000، وقيام الاحتلال الإسرائيلى بالتدمير والقتل والحصار، وإجبار الأهالى على النزوح والهجرة، وبعد تَعرُّض الأسرة لهجوم إرهابى فى طرابلس، واستشهاد والد ووالدة الشابة «مليحة»، يقرر الجد والجدة والفتاة العودة إلى أرضهم.
فكرة تِتْر المسلسل قوية ومعبرة وجذابة، تفيض برموز ورسائل وشخوص وشفرات معبرة عن التاريخ والصراع، أبدعها المخرج عادل رضوان، لتسرد تاريخاً طويلاً جمع بين مصر وفلسطين منذ القدم، وتعكس تراثاً بديعاً، وفولكلوراً وأدباً شعبياً أخاذاً، ولغة فريدة تميز بها الشعب الفلسطينى، من خلال أغنية «أصحاب الأرض»، بتوزيع جديد «للترويدة الفلسطينية»، وهى فلكلور غنائى قديم يعتمد على تكرار ترديد الجمل الموسيقية، بإيقاع ولحن واحد مرات متتالية، وبلغة «المولالاة» نوع من «الترويدة» ولكن بكلمات مشفرة، وهى لغة ابتكرتْها المرأة الفلسطينية، لتضليل المحتل وتوصيل الرسائل للمعتقلين! ويضفى صوت المطربة أصالة، والمطرب شامى رنان، شجناً وسحراً وعذوبة، ليصبح التتر الأقوى والأكثر تأثيراً فى النصف الثانى من رمضان، والتريند الأعلى على مواقع التواصل الاجتماعى.
وتصور المقدمة السيدة العذراء تبكى وتحمل السيد المسيح، وسط الدمار والخراب، و«حنظلة» الذى يرمز للشخصية الفلسطينية يجرى داخل الأنفاق، و6 شياطين طيالسة يسيرون فوق أوراق شجر الزيتون المحروقة، وشاب من فلسطينيى الشتات يقبض على مفتاح بيته الفلسطينى القديم، ويمشى تائهاً بين الماضى والحاضر، إلى جانب مجموعة لوحات تشكيلية معبرة، منها لوحة «الصلاة الأخيرة» للفنان الفرنسى جان ليون جيروم، ولوحة «كوارث الحرب» للفنان الإسبانى «فرنسيسكو جويا»، وأول لوحة رسمها القديس لوقا ثالث الإنجيليين للسيدة العذراء.
وتأتى فتاة ترقص على طبول الحرب أمام معبد جنائزى بسقارة يخرج منه «مونتو - رع» إله الحرب عند قدماء المصريين، يقوم بتحطيم تمثال «عجل هزهب» أى صنم العجل الذى صنعه السامرى من الذهب، وعبده بنو إسرائيل خلال غياب النبى موسى، عندما ذهب ليصعد جبل سيناء، وتنتهى بتحول «حنظلة» إلى مقاومة فلسطينية، تجذب الشياطين وتأسرهم تحت الأرض، قبل أن يصلوا إلى الطفلة الفلسطينية، التى ظهرت وهى تحاول أن تتعلم «رقصة النصر والحرية» الفلسطينية، وقد عاد إليها الأمل وأصبحت تجيد تلك الرقصة ببراعة وإتقان، وعلى وجهها ترتسم ابتسامة النصر.
كما استطاع صناع العمل دمْجَ الخط الدرامى مع الوثائقى، من خلال فكرة «الآفان تتر»، والسرد التاريخى بصوت الجد «سامى مغاورى» لحفيده بلهجة سيناوية، وتعريفه بقصة المؤامرة الصهيونية، وجذور القضية الفلسطينية، ومحطات وأحداث تاريخية وشخصيات لعبت دوراً محورياً فيها، ووعْدٍ ممن لا يملك لمن لا يستحق، المعروف بوعد «بلفور»، وكلها وثائق مكتوبة ومصورة، ما يجعل المسلسل وثيقة درامية لتاريخ الصراع العربى الإسرائيلى بالصوت والصورة، وإن كنت أتمنى أن يكلل هذا الجهد التوثيقى الضخم بإضافة ترجمة باللغة الإنجليزية على الشاشة.
لا أخفى أن الحماس لتقديم عمل درامى فى هذا التوقيت عن القضية الفلسطينية، جعلنا نتغاضى لمؤلفته رشا الجزار عن عيوب السرد الدرامى ورسم الشخصيات، ولكن لا بد من توجيه التحية للنجمة الكبيرة ميرفت أمين لموافقتها على المشاركة فى بطولة المسلسل، رغم ظروف ضغط الوقت، وضغط التصوير للانتهاء فى الوقت المحدد، وأدائها بسلاسة وتلقائية لدور والدة «المقدم أدهم» ضابط الجيش، كما يحسب لها موافقتها على وضع اسم الفنان «دياب» قبل اسمها على تترات المسلسل!
ولا أخفيكم سراً أننى سألت نفسى هل الأجدى والأنفع.. أن يقبل فريق العمل التحدى، ويسابق الزمن ويغالب الظروف والصعوبات، ويواصل العمل بالليل والنهار، لتنفيذ المسلسل خلال أقل من 3 شهور، ويُغامر من أجل العرض فى توقيت غاية فى الأهمية من تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى، توقيت يستدعى منا جميعاً المشاركة فى معركة نشر الوعى بالقضية، بالتوازى مع المعركة السياسية والدبلوماسية، لكسب تأييد الرأى العام العالمى المناصر للقضية، ودعم حق أصحاب الأرض فى العودة لأرضهم، وتوعية شباب لم يعش تلك النكبة، بأبعاد وحقائق وأحداث، وسرد وقائع وتداعيات وتوابع كما حدثت بالفعل، وليس كما يُزيفها الكيان الصهيونى.. أم الأفضل صناعة عمل فنى نمنحه الوقت الكافى فى التحضير والكتابة، والإخراج، والتصوير، والتمثيل وغيرها من العناصر الفنية، ليخرج بجودة وحرفية عالية وإتقان شديد، بصرف النظر عن أهمية توقيت هذا العمل الدرامى؟ الإجابة ببساطة يمكن أن نجدها فى ردة فعل الكيان الصهيونى، وحالة الغضب والاعتراض، وهجوم الإعلام الإسرائيلى على المسلسل، والتشكيك فى مصداقيته، بعد ظهور «البرومو»، وقبل عرض الحلقات على شاشة التليفزيون!