توقفت بالأمس عند ضرورة تحديد مقاييس ومعايير نجاح الأعمال الدرامية، وضرورة أن نحدد، قبل ذلك، أنواع الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة التى تشاهد هذه الأعمال.
لقد انتهى زمن المسلسل الواحد الذى يُبَث فى موعد ثابت ويشاهده كل أفراد الأسرة معاً، فى كل بيت، فى مصر وحتى بعض البلاد العربية فى الوقت نفسه.
ولعل القارئ الأكبر سناً يتذكر أيام مسلسلات «رأفت الهجان» و«دموع فى عيون وقحة» و«ليالى الحلمية» وكذلك «الفوازير» عندما كانت الشوارع تخلو من روادها، وتتجمع العائلة، وبعض جيران العائلة ممن ليس لديهم تليفزيون، فى انتظار بث المسلسل أو «الفزورة»، وبمجرد أن تنتهى الحلقة تصبح محور حديث الكبار ولعب الصغار داخل أو خارج المنزل.
بالتأكيد كانت هناك أعمال تحقق شعبية أكبر أو أقل بين شرائح طبقية أو اجتماعية أو عمرية مختلفة، فالمسلسلات «الصعيدية» تلقى اهتماماً أكبر فى الأقاليم والفوازير تجذب الأطفال أكثر من الكبار و«الكاميرا الخفية» تروق للبسطاء أكثر من المتعلمين، ولكن الجميع تقريباً كان يشاهد، ولو بشكل غير منتظم، هذه الأعمال.
إذا دخلت أى بيت اليوم، فسوف تجد أن كل فرد فى الأسرة يشاهد شيئاً مختلفاً على شاشة مختلفة. وما يشاهده سكان «كومباوند» حديث الإنشاء يختلف تماماً عما يشاهده رواد مقهى شعبى. ولكن الموضوع أكثر تعقيداً حتى من هذا التقسيم الواضح.
من ناحية، أسهمت «الثقافات» المختلفة فى خلق أذواق مختلفة داخل البيت الواحد، داخل كل طبقة، فى كل مدينة أو بلدة. ومن ناحية أخرى أسهمت منافذ العرض المتعددة (تليفزيون أرضى، فضائيات، منصات، كمبيوتر ولاب توب، هواتف محمولة، أجهزة استقبال مقرصنة، vod، وغيرها) على تشجيع، بل دفع، كل فرد للمشاهدة بمفرده، أو مع تجمعات افتراضية من الأصدقاء على مواقع التواصل.
المستوى الاقتصادى عامل مهم، ولكنه ليس الوحيد، وكثيراً ما يصبح غير مؤثر مع دخول عوامل أخرى، مثل المستوى التعليمى والثقافى ونوع التربية والنشأة بشكل عام.
على سبيل المثال: تحقق عدة أعمال تبدو سوقية، وسقيمة الذوق (فى رأى النقاد والمثقفين) مثل «المداح» و«الأفوكاتو نعمة» وبرنامج رامز جلال، شعبية هائلة لدى الغالبية من البسطاء والشعبيين والقرويين. ولكنَّ أعمالاً أخرى تبدو متعالية ونخبوية الذوق (فى رأى الشعبيين) مثل «الحشاشين» و«لحظة غضب» و«مسار إجبارى» تروق للشباب الصغار المتعلمين من أبناء الطبقات الشعبية، من الذين انتقلوا ذهنياً، أو لديهم ميل للانتقال، إلى طبقة ومستوى ثقافى أعلى.
أضف إلى ذلك البعد السياسى والبعد العقائدى، وهما يلعبان دوراً كبيراً فى تشكيل ذوق الجمهور (الجماهير) الحالى، وأكبر مثال على ذلك هو الجدل الشديد الذى يثار حول مسلسل «الحشاشين» لاحتوائه بوضوح على هذين البعدين، ولكن الأمر يمتد إلى معظم الأعمال الأخرى، بدرجة أو أخرى، حتى ما يبدو منها بريئاً من البعد السياسى أو الدينى. وعلى سبيل المثال ما يثيره مسلسل «إمبراطورية ميم» بين مَن يرون أنه لا يتعاطف مع «مشكلات» الأجيال الصغيرة بشكل كافٍ، ومن يرون أنه يتساهل مع «قلة أدب» هؤلاء الصغار.
الدراما ليست مجرد تسلية عشوائية، ولكنها علم له أصوله يستفيد ويفيد كل العلوم الإنسانية.. إذا أدركنا ذلك وتعاملنا معها على هذا الأساس.
وأول ما يجب فعله فى أى علم هو جمع المعلومات وإحصاؤها وتنسيقها وتحليلها.
ومن هنا أناشد الشركة المتحدة، باعتبارها الأكبر والأقدر، على تأسيس إدارة أو قسم لجمع المعلومات وتحليلها بشكل علمى موضوعى حول نسب المشاهدة لكل ما يُعرض من مسلسلات، ونشر النتائج ليستفيد منها المنتجون والفنانون والباحثون فى مختلف التخصصات.