يبدو أن ثقافة الانفتاح ما زالت متجذرة لدى بعضهم. ثقافة السداح مداح.. أو سلوكيات «اللى تغلب به العب به»، و«الجنيه غلب الكارنيه»، و«العلم لا يُكيَّل بالبدنجان».
فى المسرحية الشهيرة سأل عادل إمام وسعيد صالح الراحلة سهير البابلى: كم سنة من عمرها «ضاعت» فى دراسة المنطق؟
فى المسرحية أيضاً كانت الراحلة سهير البابلى تلعب دور محاضرة ودكتورة فى الفلسفة تعمل على التدريس لطلبة فى أحد الفصول المشاغبة فى إحدى المدارس فى السبعينات.
ضحك أبطال مدرسة المشاغبين واستلقوا على أقفيتهم لما قالت المدرسة إنها أضاعت ١٠ سنوات من عمرها فى الدراسة.. وعلى استعداد لإضاعة ١٠ سنوات أخرى ما دامت الأمور تتعلق بالعلم.
ووقتها ضحك المشاهد المصرى والعربى فى الكواليس ومن مقاعد المشاهدين ملء الأشداق على ردود فعل التلامذة.. وسخريتهم.. وقتها لم يكن أحد يعلم أنه كان ينبغى على المجتمع المصرى البكاء على سخرية فى غير محلها وجهها طلبة فاسدون كالسهام إلى صدر كل قيمة وكل معيار.
كانت التسعينات من القرن الماضى طفرة أدت بنجوم المجتمع المصرى الحقيقيين إلى السطح. قاد جيل الستينات طاقات هائلة فى الأدب والثقافة والبيان. وجود ما يسمى بجيل الستينات هو الذى حمى السلم الاجتماعى المصرى وقتها. وجود هذا الجيل كان ضمن من جاهدوا لحفظ التماسك الجمعى من آثار هزيمة ٦٧.. ونفس الجيل هو نفسه الذى دفع فى اتجاه الوصول إلى انتصارات أكتوبر العظيم.
ثم جاءت السبعينات.. وجاءت أجيال السبعينات.. وجاء جيل مدرسة المشاغبين وعادل إمام وسعيد صالح ليقولوا على ألسنة الشخصيات التى لعبوها كيف أن «العلم لا يكيل بالبدنجان».
الأزمة إلى جانب النص المسرحى لمدرسة المشاغبين كانت فى قيم شديدة السلبية وقتها على الشارع وعلى المشاهد العربى.
كانت الأزمة فيما اتفقنا على تسميته فيما بعد بثقافة السبعينات.
إنها السبعينات.. وما أدراك ما السبعينات.
السبعينات هى ثقافة الاستهلاك.. والمعلبات المستوردة.. والتفاح الأمريكانى وارد بورسعيد.
لا تبنى الدول بالسيارات الفرارى.. ولا تقام الحضارات على أكتاف النجوم من عينة أحمد سعد أو حمو بيكا.
فى الأحياء الشعبية ينطقونها «بيقا» بالقاف بدلاً من الكاف.
حتى اللغة تغيرت وتهاوت مفرداتها وأشكال الحروف وطريقة ومخارج ألفاظها. تفكر الشعوب كما تنطق وكما تغنى وكما تخرج حروف مفرداتها.
مرت السنوات وجرت فى النهر مياه كثيرة ثم جاء جيل أحمد سعد.
كثير من المنتمين لهذا الجيل كانوا امتداداً لثقافة هجينة.. أو كانوا توليفة جمعت ما بين تراث السبعينات الباقى وتراث آخر تكوّن وتعملق كما كرات الثلج.. فانتهى به الأمر إلى شهرة مدوية.. وثروات كبرى.. وسخرية فى غير محلها من آخرين تعلموا ودرسوا وتفوقوا.. واستنكر بعضهم كونهم ما زالوا يركبون الـ٢٨.
الفن أساس.. ومطلوب.. لكن من قال إن العبرة فى الفنون بمقدار ما يجمعه المغنى من حفلاته من أموال أو فى شكل ما يعود به إلى بيته من سيارات؟
قال لك إن أخاه طلع الأول على اليابان! وقال لك إن زويل دعاه للعمل فى جامعة النيل!
لا أحد يعرف للآن ما هو معنى «الأول على اليابان»، كما أن لا أحد يعرف علاقة جامعة النيل بالدكتور زويل!
ما علينا.
إحدى أهم أزماتنا الآن فى ما قد وصل إليه بعضهم من اختزال استهلاكى لقيم مفترض أنها عليا فى الأساس.. كالتعليم أو الكد أو السعى فى طرق أخرى غير الأغانى وتأليف الأغانى.
فى الثمنينات فى الفيلم الشهير دار صراع بين الشخصية التى جسدها النجم الكبير الراحل محمود ياسين وبين حسين فهمى.
لعب محمود ياسين شخصية جامع قمامة والجامع فى الوقت نفسه الملايين من حرفة مهمة صحيح، لكن مؤكد أن أهميتها تلك لم تكن لتتيح لصاحبها، لولا الزمن، مناطحة أستاذ الفلسفة فى الفتاة التى أحبها.
الفيلم كان اسمه «أهل القمة»، وظهر فى فترة كان المجتمع المصرى فيها قد ضربه تسونامى أثار ما قبله من سنوات، حيث غيّر المصريون بدعاوى الانفتاح نظرتهم عن الدكاكين التى أصبح لها اسم جديد هو «السوبر ماركت».
غيّر المصريون وقتها نظرتهم لأشياء كثيرة.. ولقيم أكثر.
فى الفيلم انتهى الأمر بأستاذ الفلسفة إلى طلب وظيفة من «الثرى الجديد».
النهاية ليست منطقية.. لكن هذا لا ينفى عنها رمزية شديدة السخرية أيضاً فى شكل من السينما كان مناسباً للزمن وللعهد وللظروف.
ماذا بقى لدينا من زمن السبعينات والانفتاح والمثل الدارج الذى ابتكروه وقتها ليقول إن: «الجنيه غلب الكارنيه»؟