حينما يصبح القتل ثقافة، والاغتيال أسهل من تجرع شربة ماء، ويتدثر الموت بين ظلام الطرقات، ولا يعرف من قُتل فيما قُتل، ولا القاتل لماذا قَتل، ويصير للخوف صوت القارعة، وللدم عطاشى مغيبون، وقتلة مهووسون، يبثون الفزع والرعب فى مشارق الأرض ومغاربها، لا بد أن يفرض الماضى سطوته على الحاضر، ويطل على العالم من جديد، ليروى قصصاً غيرت مجرى التاريخ، وأسالت الكثير من الحبر على الورق، واستحوذت على مخيلات كتاب ومؤرخين، وتركتهم يتأرجحون فى حبال الخرافة والحقيقة، الأسطورة والواقع، فما أكثر الكتب والروايات والأفلام التى تناولت طائفة الحشاشين، وزعيمها السيد الأساس، كما يحلو لأتباعه تسميته.
من منا لم يسمع عن «الحشّاشين»، أخطر فرق الاغتيالات فى القرن الحادى عشر، وزعيمها «حسن الصباح» أحد أكثر الشخصيات المثيرة للجدل، ورغم تعدد الكتب والروايات عنهم، ما زلنا نتوق للمزيد لفك ألغاز ورموز أعقد الحكايات فى التاريخ الإسلامى، والولوج إلى حصون أولئك القتلة المحترفين فى بلاد الفرس، والسفر عبر الزمان والمكان مع أحداث وشخصيات، حققتها اجتهادات المؤرخين من بقايا كتبهم ومكاتباتهم التى أُحرقت على أيدى المغول، وأخرى رواها المبدعون كلٌ من وحى خياله وإلهامه، صحيح أنهم لم يجتمعوا على الحقيقة، لكنهم كتبوا عن الحاضر بلغة الماضى، أسقطوا التاريخ على الحاضر، وحذروا من كل فكر ظلامى يتلحف بالدين، ومن سيطرة الوهم والإيهام على العقول.
وفى ظل هذا الميراث التاريخى والأدبى شديد التشابك والتعقيد، يقدم الكاتب عبدالرحيم كمال دراما «الحشاشين»، ويبدع مع المخرج «بيتر ميمى» وفريق العمل ملحمة درامية مبهرة وممتعة، لا ينال من قيمتها الأسلوب السائغ السلس، البعيد عن الفذلكة والتعقيد، بل تميزها اللغة السهلة الحميمية القريبة من الأذهان، لتصل إلى أكبر شريحة من الجمهور، بمختلف ثقافاتهم وأعمارهم، وسط الأحداث المتلاحقة السريعة التى يصعب على من لم يقرأ التاريخ متابعتها.
وإذا كانت كتابة السيناريوهات المأخوذة عن أحداث تاريخية، تعد من الأعمال الفنية الأكثر صعوبة، لما تتطلبه من بحث فى المؤلفات والمراجع، قبل صياغة الموضوع بما يتوافق مع لغة «الدراما»، واختيار ما يناسب أسلوب السرد، وتخيل وقائع وشخصيات تجعل السيناريو نسيجاً ووحدة مترابطة، فإن الأمر يزداد صعوبة حينما تختلف المراجع فيما بينها، ونرى من يصور زعيم الحشاشين داهية وسفاحاً دموياً مستبداً، ومن يجعل منه شخصية مؤثرة ذات عقل راجح وفكر سديد، ومن يجعل منه «روبن هود» الشخصية الشهيرة فى الفلكلور الإنجليزى! ومن يجمع بين شخصيات يصعب جمعها، ومن يعيد الأموات للحياة!
فى رواية «سمرقند» للمبدع أمين معلوف، امتزجت الحقائق التاريخية بالخيال والرؤى الفلسفية، لتسلط الضوء على حالة التخبط الفكرى والسياسى الذى ساد العالم الإسلامى فى تلك الفترة، وتتناول نظرة 3 شخصيات مهمة للحياة، الشاعر الخالد «عمر الخيام»، و«نظام الملك» أحد أعظم وزراء الدولة الإسلامية على مدار تاريخها، و«حسن الصباح» الرجل الذى ظن أنه الصواب المطلق، وأسس قلعة «آلموت» الحصن الذى يقع فوق صخرة وسط الجبال على ارتفاع 6 آلاف متر، استعصت على الغزاة لأكثر من 160 عاماً قبل أن يدمرها المغول، ومن خلال الولع الغربى بمخطوطة «سمرقند» تنتقل الأحداث إلى إيران المعاصرة، وتنتهى بغرق السفينة تيتانيك وتغرق معها مخطوطة رباعيات سمرقند.
أما «فرهاد دافترى» فى كتاب «خرافات الحشاشين وأساطير الإسماعيليين» فيرى أن سلوك التضحية بالنفس الذى اتبعه «النزاريون»، ليس بتأثير الحشيش أو اختفائهم وسط الحشائش عند اغتيال معارضيهم، بل من باب الإيمان والعقيدة، وهو ما ذهب إليه د. محمد عثمان الخشت، الذى ينفى فى كتابه «حركة الحشاشين» استخدام «الصباح» لمخدر الحشيش للسيطرة على أتباعه وإيهامهم بالفردوس! وأوعز مصدرها إلى ماركو بولو، وأن السيطرة عليهم كانت فكرياً وعقائدياً، لأن النفس المدمنة لا تكون ذات عزيمة وقوة بأس بهذا الشكل المرعب، أما برنارد لويس فيشير إلى أن كلمة الحشاشين «ASSASINS» تعنى القاتل المحترف، دخلت اللغة كناية عن أول جماعة استخدمت الاغتيال السياسى كسلاح ضد أعدائها.
ونصل إلى المؤلف «هادى التيمومى» ويزعم فى روايته «قيامة الحشاشين» أنّ زعيم الحشاشين لم يمُت، وعاد لاستئناف مشروعه المُظلِم، وبدأ أتباعه المعاصرون بشحذ الهمم وتكديس السلاح! والرواية تجمع بين التاريخ والفانتازيا من خلال أستاذ يعثر داخل حديقة منزله على مزامير الصباح مُشفَّرة لاستئناف دعوته وإقامة دولتهم!
وقبل كل هذا كتاب «تاريخ فاتح العالم» للمؤرخ علاء الدين الجوينى الشخص الوحيد الذى اطلع على مكتبة قلعة «آلموت» وأهمية الكتاب فى سلامة المصادر التى اعتمد عليها، وأنه كان وثيق الصلة بالشخصيات التى وجّهت الأحداث، ونقل تلخيصاً لكتاب نادر فى تاريخ الإسماعيلية عثر عليه فى قلاعهم التى دمّرها هولاكو.