لقد قرأت عشرات المقالات والتحليلات التي سعى كتُابها إلى تمييز الحرب الدائرة في غزة راهناً على صعيد علاقتها بالدين؛ فوجدت انقساماً كاملاً وواضحاً بين فريقين؛ أولهما يراها "حرباً دينية بامتياز"، وثانيهما على العكس من ذلك تماماً؛ إذ يؤكد كونها "ليست حرباً دينية على الإطلاق".
سيكون للفريق الأول حظ وافر عند البحث عن الذرائع التي تسند مقاربته، وسيكون له حظ أوفر عندما ستُذاع أطروحته، ويتلقفها الجمهور، ويشعر قطاع كبير منه أنها تعزز مفهومه عن تلك الحرب ورؤيته لها، بل ولعديد الحروب التي جرت على مدى التاريخ.
فلطالما تمتع التفسير الديني للقتال- أو التوسل بالدين لتسويغ الحروب وتحليل أبعادها- بالكثير من الأنصار، خصوصاً في الشرق، الذي يؤدي كل من الدين، والتدين، والتأويل الديني دوراً مركزياً في تحديد علاقته بالكثير من المفاهيم، وهو أمر يمكن أن نجد له أثراً في الغرب أيضاً، ومناطق أخرى من العالم، بشكل متفاوت بطبيعة الحال.
لقد قيل الكثير عن الحرب على مر العصور، ومن بين المحاولات الجادة التي سعت إلى سبر أغوارها وتحليل أبعادها، تبرز المحاولة التي أقدم عليها البروفسير بريان فيرجسون، الذي خلص- بعد بحوث جرت على مدى ثلاثة عقود عن الحرب- إلى عدد من الأفكار المهمة، وهي أفكار يمكن أن تساعدنا على فهم أسباب اندلاع تلك الحرب، ودور الأيديولوجيا والقيم الدينية فيها.
وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فيبدو أن المصالح تأثيرها أكبر من الأيديولوجيا الدينية في تطور النزاعات المسلحة؛ سواء كان هذا الأمر يخص الحربين العالميتين الأولى والثانية، أو يتعلق بالحرب الدائرة في السودان راهناً، أو حتى النزاع المحتدم بين "حماس" وإسرائيل في غزة.يعطينا تاريخ الحروب الكثير من الإثباتات لهذا الطرح؛ خصوصاً عندما يجري الحديث عن التآلف والسلام والتحالف بين دولتين سبق أن انخرطتا في حرب ضروس، علماً بأن هذا التحالف اللاحق للعداء لا يأتي عادة بمواكبة توافق أيديولوجي، بل يتحقق عبر تنحية الخلاف لإفساح المجال لحديث المصالح.
وفي هذا الصدد، يتراجع تأثير الركائز الأيديولوجية ذات الأبعاد الدينية التي تجتهد لشرح واقع الصراع الدائر حالياً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، رغم "وجاهة" تلك الطروحات، وصمودها لعقود طويلة باعتبارها مفتاحاً لفهم حقائق الصراع.
لا يمكن نفي أن ثمة اتجاهاً فكرياً رائجاً يؤكد أن ثمة جذوراً دينية واضحة لهذا الصراع، وهو أمر تعززه تصريحات واضحة لعدد من القادة الغربيين، الذين سعوا، "انطلاقاً من معتقدات دينية"، إلى التأكيد على "خلفية توراتية يؤمن بها المسيحيون الغربيون على اختلاف مذاهبهم تجعلهم يتعاطفون مع اليهودية العالمية".
فضلاً عن الحديث عن تبني "خطة إلهية للخلاص المسيحي"، لا تكتمل عناصرها من دون إنشاء دولة إسرائيل على أرض "الحق التاريخي المستند إلى الوعد الإلهي"، وهو أمر تعززه نبوءات وتفسيرات تجد رواجاً في الغرب. كما أن تصريحات بعض القادة اليمينيين في إسرائيل وتصرفاتهم تشي بأن ثمة بعداً دينياً رئيساً في سلوكهم السياسي، أو خطابهم المعلن على الأقل.لكن هذا الاتجاه يشهد اختلافاً حتى بين اليهود أنفسهم، وقد تعرض لمراجعات عدة، وصولاً إلى تقليل أثره كمفتاح لفهم حقائق الصراع، خصوصاً في ظل وجود قادة صهاينة مؤثرين من العلمانيين، واختلاف التفسيرات التوراتية والإنجيلية بخصوص إنشاء الدولة العبرية في الأراضي الفلسطينية بين من يراه ضرورة ومن يراه خطأ دينياً لا يجوز ارتكابه.
من هنا يتراجع هذا التفسير، وفق حقائق ووقائع عديدة، لصالح التفسير المستند إلى الاعتبارات العملية والمصالح المادية.ويعزز ذلك الاستبعاد أن بعض النتائج التي خلصت إليها بحوث الحرب تشير إلى أن التباينات في أعمال القتال الفعلية ـ فترات الحرب وفترات السلام، ومن يشن الهجوم ومن يتعرض له ـ يمكن تفهمها كنتيجة لفكرة أن من يتخذون قرارات الحرب يفعلون ذلك سعياً وراء تحقيق مصالح عملية. ويعكس هذا الأسلوب في التعامل مع الحرب توجهاً سلوكياً يعنى بتحليل ما يفعله الناس أثناء الحروب، وليس ما يقولونه.فأثناء المناقشات الطويلة التي عادة ما تسبق الحرب، يعمد أنصار أي مسار عمل معين إلى طرح تصورهم لما يحقق المصلحة العامة في صورة أخلاقية وقيمية؛ وهنا تظهر أفكار الواجب الديني أو قيم الشجاعة والجبن أو ضرورة الثأر أو الوعود الإلهية والحق الديني.
ويجري استغلال القيم المشتركة المترسخة في الجماعة للتبرير وإقناع الآخرين. وبذلك يجري تحويل الحاجات والرغبات إلى أمور صائبة وأخرى مرفوضة أخلاقياً.
ما يقوله فيرجسون هنا يتفق إلى حد ما مع ما ينادي به المفكر الراحل د. عبد الوهاب المسيري، الذي رأى أن الغرب عموماً، والولايات المتحدة على رأسه، هو راع إمبريالي قوي لدولة إسرائيل "الوظيفية"، التي ستزرع في الشرق الأوسط، لتعمل لحساب الحضارة والمصالح الغربية، باعتبارها ظاهرة استعمارية غربية إحلالية استيطانية، يرعاها الغرب ويمولها ويسلحها، ويضمن أمنها واستدامتها، لتحقيق مصالحه.التحليل نفسه يمكن أن ينطبق على "حماس" أو أي "حماس"؛ إذ يخبرنا التاريخ بأن دعاوى الحرب كما دعاوى السلام تماماً وجدت في النصوص والتأويلات ما يسندها، وأن إخراج تلك النصوص من سياقها، وإبرازها، والتأكيد عليها، واعتبارها الصواب المُطلق يتعلق فقط بتقديرات القادة للمواقف السياسية والعسكرية، ومتطلبات تحقيق المصلحة العملية.