يكمن أحد جوانب مأساتنا الفكرية المعاصرة فى أننا جميعاً أصبحنا نعانى من مرض التطرف الذى أصاب الجميع سواء فى التدين أو فى العلمانية، وأصبح أبناء الأمة الواحدة يعانون حالة انفصام الإخوة الأعداء! وإزاء هذا الوضع العدائى البغيض الذى نشأ من موقفين كليهما «متطرف»، تجد المسلمين المعاصرين يشبهون جمهور كرة القدم المتعصب الذى لا يرى غير فريقه. إن ظاهرة «الألتراس» ليست سوى تعبير رياضى فج عمّا نعانيه فى الفكر والثقافة والإعلام؛ فالعصبية السائدة فى كرة القدم هى نفسها عصبية الأيديولوجية والجماعة والقطيع الفكرى فى الخطاب الدينى والخطاب الدنيوى.
وفى حالة كهذه لا يمكن تجديد الخطاب الدينى ولا الخطاب الدنيوى دون تبين المنشأ العقلى للتطرف عامة سواء كان تطرفاً دينياً أم دنيوياً. وفى تصورى أن المنشأ العقلى للتطرف يكمن فى طبيعة «منهج التفكير اللاعقلانى». وتستلزم عملية التجديد أولاً «فضح» هذا المنهج، ووضع الناس أمام حقيقة أنفسهم وحقيقة عقولهم؛ فالعقول مريضة، لذا لا يمكن أن تحل تناقضات الواقع ولا حتى تناقضات النفس، ولا يمكن أن تنتج علماً ولا فكراً ولا حلولاً لإشكاليات العصر.
إن نقد منهج التفكير اللاعقلانى الذى يحكم تفكير النخبة وعموم الناس معاً بات ضرورة مطلقة قبل الشروع فى التجديد، وهو بمثابة تشخيص مرض عضال، وهو أيضاً بمثابة العلاج؛ فالوعى بالداء جزء من العلاج.
ومن وجهة نظرى المتواضعة أن المرض الأكبر الذى يعانى منه منهجنا فى التفكير هو «الدوجماطيقية»!
لكن ما الدوجماطيقية؟
ببساطة هى التعصب المطلق لكل ما تؤمن به الجماعة، إنها الاعتقاد بامتلاك الحقيقة كلها. وهى تعريب لكلمة Dogmatism، ولها ترجمات عديدة، مثل: يقينية، وثوقية، قطعية، توكيدية. وأى متطرف فى الدين أو الفكر أو السياسة هو متعصب أو دوجماطيقى بلغة الفلسفة. والدوجماطيقى هو شخص غير عقلانى، يعتقد اعتقاداً جازماً أنه على صواب تام وأن الآخرين على خطأ تام، إما لأنه لا يستخدم عقله مطلقاً، أو لأنه يستخدمه بطريقة خاطئة. فليست «اللاعقلانية» هى عدم استخدام العقل فقط، لكنها أيضاً استخدامه بطريقة خاطئة!
وليست الدوجماطيقية تياراً فلسفياً أو دينياً محدداً، إنما هى -فى أكثر معانيها انتشاراً- صفة تتصف بها كل فرقة أو مذهب أو جماعة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل شامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئاً من الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات لا يقبل النقاش ولا التعديل ولا التطوير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية، فهى مقدسة ومنزهة عن أى نقد، على الرغم من أن هذه المعتقدات والآراء غير مبرهن عليها ببراهين قاطعة من العقل أو الواقع أو الوحى يقينى الثبوت ويقينى الدلالة، وعلى الرغم من عدم التمهيد لهذه المعتقدات بفحص نقدى تحليلى للأسس التى تقوم عليها، ودون بحث فى حدود وقدرات العقل المعرفية، فضلاً عن عدم تمحيص الطرق التى توصل إلى المعرفة الصحيحة. وأى فرقة أو جماعة أو تيار أو فلسفة تعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة فهى متعصبة أو دوجماطيقية؛ لأنها تتعصب تعصباً مطلقاً لكل ما تؤمن به، ولا تتسامح مع آراء أو معتقدات الآخرين!
ولم يعد لمعظم الفلسفات الدوجماطيقية من وجود إلا فى بطون الكتب والدراسات، وبعضها له جمعيات علمية بحثية فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ولهذه الجمعيات نشاط نظرى ملحوظ لا سيما على شبكة الإنترنت. غير أن الأصوليات الدوجماطيقية، سواء الدينية أو السياسية أو الثقافية، لا تزال موجودة نظرياً وعملياً وسياسياً فى معظم بلدان العالم إن لم يكن كلها بدرجة أو بأخرى. ومن غير الخفى أن الدوجماطيقية موقف وسمة يتحلى بها كثير من المذاهب الأيديولوجية والفلسفية والدينية الموجودة على الساحة فى كل بلدان العالم وليس العالم الإسلامى فقط، وهى ليست صفة للتطرف الدينى فقط، بل أيضاً صفة للتطرف العلمانى.
هذا ما نجده فى التطرف الدينى والتطرف العلمانى على حد سواء، فموقفهما ينطوى على تعصب؛ لأن كلاً منهما ينحاز إلى آرائه بشكل مطلق، وينفى الآخر، ولا يقبل مناقشة أفكاره. وهذا ما يمكن أن نلمسه فى موقفهما من الدين. ومع أهمية الدين القصوى، فإن الخطاب الدينى يبدو فى وضع يتميز بالخلط والالتباس، نتيجة صراع الإخوة الأعداء؛ حيث يجد المسلم نفسه بين تيارين متعصبين أصبح لهما السيادة فى الجدل الحالى على مختلف الساحات، أعنى تيار التطرف العلمانى وتيار التطرف الدينى؛ إذ يتصرف التيار الأول وكأن الله غير موجود! بينما يتصرف التيار الثانى وكأن الإنسان غير موجود! بمعنى أنه ينزع من الإنسان كل فعالياته ومسئولياته ومواهبه. التيار الأول جعل إلهه المال والرفاهية والتحرر، والتيار الثانى يفهم تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالعقاب والقهر والتسلط ولا تتعلق بالضمير والروح والعمل والتنمية.
وكلا التيارين -على الرغم من تعارضهما- يشتركان دون أن يعيا ذلك فى مجموعة من الصفات التى تجعل الصراع بينهما صراعاً عقيماً، وأهم صفة مشتركة بينهما هى «وهم امتلاك الحقيقة المطلقة»، فكلاهما يزعم أنه وحده الذى يعرف الحقيقة ويمتلك مفاتيح الخلاص. ولذلك فكلاهما متعصب، وكلاهما دوجماطيقى، وكلاهما يجرنا إلى حافة الهاوية!