فى الأسبوع الماضى، تسارعت التحذيرات الدولية من الكارثة التى يمكن أن تحدث فى حال أُجبر مئات الآلاف من الفلسطينيين، الذين يقيمون على الحدود مع مصر، على الفرار إلى سيناء، هرباً من القصف الإسرائيلى.
إنها كارثة بكل المقاييس، هكذا تؤكد الأمم المتحدة على لسان المفوض السامى لشئون اللاجئين فيليبو جراندى، الذى شدّد على ذلك، خلال حديثه أمام الدورة الستين لمؤتمر ميونيخ للأمن، فى ألمانيا، فى الأسبوع الماضى، حينما أشار إلى أن العملية العسكرية التى تقوم بها إسرائيل فى رفح الفلسطينية قد تُجبر الغزيين على الفرار إلى سيناء.
يقول جراندى إن هذا الأمر لن يُشكل كارثة على الفلسطينيين فقط، ولا على مصر فقط، لكنها ستمتد أيضاً لتُقوض «مستقبل السلام»، الذى بقى صامداً بين مصر وإسرائيل على مدى أكثر من أربعة عقود.
الإسرائيليون يوزّعون الأدوار، فبينما يقول قطاع من المسئولين اليمينيين فى الدولة العبرية بضرورة ترحيل الغزيين إلى سيناء، ينفى مسئولون آخرون أن هذه هى رغبة الحكومة.
من هؤلاء يبرز وزير الخارجية الإسرائيلى يسرائيل كاتس، الذى قال فى مؤتمر ميونيخ للأمن أيضاً، إن دولته لا تريد ترحيل أى فلسطينى إلى مصر. لكن الأحداث على الأرض لا تعكس هذا الكلام.
الأمريكيون والروس والبريطانيون والألمان والصينيون كلهم عبّروا رسمياً فى أكثر من محفل عن معارضتهم لهذا التطور الكارثى، الذى يبدو أن الإسرائيليين عازمون على رؤيته متحقّقاً على الأرض.
مصر كانت واضحة منذ اللحظة الأولى فى رفضها القاطع لمثل هذا التطور، ليس فقط لما يحمله من مس بسيادتها، أو تعريض بأمنها، ولكن أيضاً لأنه سيُمثل تصفية للقضية الفلسطينية، وإنهاءً للوجود الفلسطينى فى قطاع غزة، كما أنه سيُهدّد معاهدة السلام التى تربط البلدين، والتى مثّلت حجر أساس سياسياً لكثير من التطورات، التى جرت فى المنطقة منذ توقيعها قبل نحو 45 سنة.
والآن يُحاصر ما بين مليون إلى مليون وأربعمائة ألف فلسطينى من أبناء غزة فى جنوب القطاع على مقربة من الحدود مع مصر، فى ظل شح كبير فى المساعدات اللوجيستية والغذائية والدوائية، وفى طقس قاسٍ، وهم تحت سيف آلة الحرب الإسرائيلية، التى تبدو عازمة على المضى قدماً لإحراز «نصر» ميدانى وسياسى، يُنقذ حكومة «نتنياهو» من المساءلة عن كارثة «طوفان الأقصى»، أو يخفّف وقعها.
والواقع أن التصريحات التى تخرج من مسئولين سياسيين فى مختلف دول العالم، بضرورة إيجاد هدنة، أو الوصول إلى وقف فورى لإطلاق النار، أو منع الخطة المفترضة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، لا تكفى لحل هذه المعضلة، ومنع وقوع تلك الكارثة.
كما أن التصريحات الرسمية التى خرجت عن بعض المسئولين السياسيين الإسرائيليين بعدم تأييدهم هذا النهج، لا تكفى للإقناع ولا لتهدئة الخواطر، طالما أن الآلة العسكرية الإسرائيلية ماضية قُدماً فى استهداف المدنيين وإجبار الغزيين على النزوح إلى الجنوب، من دون أى أفق واضح لعودتهم إلى مواقعهم السابقة على كامل أرض القطاع.
سيكون من حق مصر أن تعتبر أن تلك التصريحات الإسرائيلية ليست سوى مُسكّنات تهدف إلى كسب الوقت، بينما تمضى الدولة العبرية فى مخططها الذى تُثبت الوقائع أنه يعكس إرادة حقيقية.
إن دفع مصر إلى الوضع الذى ستختار فيه بين أن تفتح حدودها لاستقبال الغزيين الفارين من الموت والدمار والجوع، أو منعهم، فى ظل الهجمات الإسرائيلية الدامية، هو كارثة بكل المقاييس، لكن الاكتفاء بالتحذير من وقوعها، أو الإعلان عن رفضها، ليس العمل الأفضل لمواجهتها.
على دول العالم الرئيسية أن تتحمّل مسئولياتها فى هذا الصدد، وأن تبذل جهوداً حقيقية لمنع حدوث هذه الكارثة، وهو أمر لن يحدث فى ميونيخ، أو لندن، أو واشنطن، لكن مكانه الوحيد هو تل أبيب.
من دون ضغوط ملموسة وقوية على الحكومة الإسرائيلية، فإنها ستمضى قدماً فى خطتها غير المعلنة رسمياً، لأن تحقيق هذه الخطة هو الذى سيمكنها لاحقاً من «إعلان النصر» فى واقعة «طوفان الأقصى».
لا يمكن تصديق أىٍّ من مسئولى الحكومة الإسرائيلية حين يتشدّقون بتصريحات تفيد بعدم اعتزامهم ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء، طالما أن تلك الحكومة لا تتجاوب مع محاولات الوصول إلى هدنة، أو إيجاد أفق للحل، بعيداً عن الاستهداف المنهجى للمدنيين وتهجير جماعات السكان، وحشرهم فى الزاوية.
ولا يمكن أيضاً تصديق المسئولين الدوليين الذين يبدون انزعاجهم وقلقهم من مخططات تهجير الفلسطينيين إلى مصر، طالما أن هذا الانزعاج والقلق لا يتجاوز التصريحات المعلنة، ولا يتحول ضغوط إلى سياسية ملموسة لحمل الحكومة الإسرائيلية على وقف مخططاتها التى يمكن أن تقوض القدر المتبقى من الأمن والاستقرار فى المنطقة، وتفتح الباب أمام فصل آخر من الصراع ملىء بالمخاطر والتحديات الأمنية غير المسبوقة.
إن الجهود التى تبذلها مصر فى مجال إنفاذ المساعدات إلى غزة، أو محاولة عقد هدنة بين الإسرائيليين و«حماس»، يمكن أن تُثمر فقط حينما تتزايد الضغوط على الحكومة الإسرائيلية، وحينما يعرف نتنياهو وأركان حكومته، خصوصاً المنتمين إلى أحزاب اليمين المتطرف، أن العالم لا يقبل بتصفية القضية الفلسطينية، وتهديد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، التى من دون احترامها والالتزام ببنودها، يمكن أن تذهب المنطقة إلى حالة من عدم الاستقرار الشامل.