ما بين رحيل وإصابة أبناء لنا فى الكلية الحربية ما زلنا نعالج جروح النفس من فعل الإرهاب بهم، وبين رحيل الخال عبدالرحمن الأبنودى بعد مقاومة لمرض أنهكه، تهب علينا نسمات الرجولة لتؤكد أنها ليست جنساً فكثير من الرجال عيال، لكنها هبة تمنح فقط لمن أراد الحياة بشرف حتى لو اضطر للسباحة ضد التيار.
فحينما تعلم أن أبناءنا فى الكلية الحربية رفضوا النزول فى الإجازات بالزى المدنى كإجراء وقائى لحمايتهم من يد إرهاب غاشم بعد حادثة استشهاد ثلاثة منهم وإصابة آخرين فى كفر الشيخ الأسبوع الماضى، مرددين أنهم لن يتنازلوا عن زيهم العسكرى مهما حدث، وأن ذهابهم وإيابهم لن يتم إلا بهذا الزى. فافخر أن فى بلادك هؤلاء الأبناء الذين أحبوا التضحية وأدركوا -وهم ما زالوا صغاراً- أن الحياة اختيار، فاختاروا الرجولة. وتذكر حينما كان قادة الإخوان وعلى رأسهم بديع مرشدهم -لا عامتهم- يهربون من يد القانون متخفين فى زى النساء مرتدين النقاب خوفاً من القبض عليهم لا من اغتيالهم. وقارن بضمير بين شباب قدم روحه منذ اللحظة الأولى فداءً لبلاده فيرفض خلع زيه العسكرى حتى لو بغرض الحماية لحياته، ويستشعر الخزى فى الفعل ويستمد من زيه روح التحدى، وبين فعل جماعة تاجر قادتها بدم المصريين جميعاً وبدين لا علاقة لهم به وبوطن لم يعنهم فى شىء فقالوا عنه «طز».
وحينما يرحل الخال الأبنودى عن الحياة بعد أن ملأها إبداعاً بكلمة وفكرة وموقف، فاعلم أنه مات كالنخل ناظراً للسماء، رافضاً الإذعان لمرض حاصره منذ سنوات، وفرض عليه إقامة جبرية فى منزله بالإسماعيلية، فأبى الخال رفع راية الاستسلام، وواصل بث الأمل فى النفوس عبر نسمات القول فى عز الأزمات التى طحنتنا فى السنوات الأربع الماضية، فاشترى وطناً رافضاً خيبات النخبة وطنطنتها دون قدرة على فعل، مصراً على ممارسة مبارزة مرضه بمفرده بعيداً عن عيون الأحبة والأصدقاء، رافضاً مطالبتهم برؤيته، فقط رؤيته.. عز عليه أن يروه ضعيفاً منهكاً. أراد أن يحتفظوا له بصورته بينهم قوياً شامخاً أياً ما كانت ملامح وجهه البادية عليه، غضباً أو حزناً أو فرحاً. وحينما قادتنى الظروف صدفة لرؤيته فى مستشفى الجلاء العسكرى منذ نحو الشهر، انزعج وحزن لدخولى صومعة قتاله لمرضه، وطلب رحيلى مودعاً إياى بالقول: «ماحبكيشى تشوفينى كده.. امشى وخللى بالك من روحك». أخرج مسرعة خوفاً من إرهاقه وإيلامه وأتذكر من يتاجرون بضعفهم ومرضهم ووهنهم استنزافاً لاهتمام الآخرين. وأدرك أن الرجولة معانٍ عاشها الخال بالطول والعرض فى سنين حياته.
وهكذا يا سادة يقدم لنا الحزن معادن الرجال. ففى ظلمات الأحداث ولحظات الأسى تطل علينا مواقف الرجولة -أياً كان جنسها- لتجدد فينا روح الأمل وعزيمة النفس، فنصر على مواصلة الخطى مهما كانت الصعوبات ومهما أنهكتنا أوجاع البعاد.. فتحية للرجال أينما كانوا وأينما رحلوا أو فارقوا. تحية لرجال عاشوا رغم الموت فكم من أناس ماتوا حولنا وفارقوا احترامنا رغم العيش بيننا.
سلام سلاح.