لم يكن فى أجندة تفكير الإيرانيين طوال العقود الماضية وهم يؤسسون لحلمهم الشرق أوسطى أن يتفاجأوا يوماً باستيقاظ العرب من موتهم.
منذ بداية الألفية الثانية وهم ينفذون كل مخططاتهم السابقة لفرض مشروعهم الفارسى فى المنطقة ولم يتراجعوا يوماً فى إدارة صراع مع المشروعين الموجودين فى المنطقة، وهما المشروع الصهيونى الذى تقوده إسرائيل، وهنا علينا الإشارة إلى أن الصراع الإيرانى الإسرائيلى ليس من باب تبنى قضايا العرب أو الانحياز الحقيقى للقضية الفلسطينية وإنما هو «الماركتنج»، فهم يتصارعون من أجل مشروعهم والدليل أنهم حين شعروا يوماً أنهم فى حاجة إلى إسرائيل لجأوا إليها عبر صفقة السلاح التى أدارها الشيخ رافسنجانى وأخذ سلاحاً من إسرائيل خلال حرب الثمانى سنوات مع صدام.
المشروع الآخر وهو المشروع العثمانى الذى تقوده تركيا وقد دار كثير من الصراعات والاختلافات بين إيران وتركيا حتى لو لم تكن واضحة ولكنها تجلت كثيراً فى إدارة الملف السورى، الانحياز الإيرانى لبشار هو انحياز لمشروع فارسى والعداء التركى لبشار هو انحياز لمشروع عثمانى قديم.
فى ظل إدارة الصراع هذا فى الشرق الأوسط لم تجد إيران يوماً نفسها مهمومة بتحدٍ اسمه المشروع العربى لأنه لم يكن موجوداً أصلاً، بل لطالما أكلت على موائد ضعفهم وهوانهم، ولقد قال لى ذات يوم أحد السياسيين الكبار أثناء وجودى فى العراق عام 2003 «أن نأخذ نحن الإيرانيين العراق خير من أن يأخذه الأمريكيون»، ولكن ظل السؤال فى حلقى عالقاً لماذا تأخذونه أصلاً؟ ولماذا يأخذه الأمريكيون أصلاً؟
السياسى الإيرانى كان يريد أن يقول إن العرب ماتوا ولن تقوم لهم قائمة، وهذا كان واضحاً فى أدبياتهم السياسية وحتى فى أشعارهم وكتاباتهم، حين نجح الإيرانيون فى الاستيلاء على العراق وأخذوه كاملاً تنفسوا الصعداء.
انطلاقاً من هذا الواقع المر وهو الموت العربى راحوا يؤسسون لمشروعهم ويغرسون أشجارهم فى كل مكان واعتمدوا فى ذلك على سياسة أذرع الأخطبوط المسممة، ففردوا ذراعاً فى لبنان وجعلوها تمتد إلى سوريا، ومددوا ذراعاً أخرى ضخمة فى العراق كله، وهكذا البحرين وأخرى فى اليمن تحت مسمى الحوثيين ولم ينسوا غزة، عبر حماس مرة، وعبر حركة الجهاد الإسلامى مرة أخرى، وبالتالى ضمنوا وجودهم على أى طاولة للتفاوض بخصوص أى قضية من هذه القضايا، فى نفس الوقت كان «أردوغان» يعيد إيقاظ حلمه العثمانى القديم وهو يتحرك عبر محور الإخوان المسلمين فى مصر وفى تونس، ولكن انهار هذا المشروع بعد سقوط الإخوان فى مصر وفى تونس أيضاً، ولم يجد «أردوغان» أمامه سوى الانحياز إلى محيطه السنى والعربى فى مواجهة إيران المختلف معها سياسياً وأيديولجياً، وتجلى ذلك فى دعم «أردوغان» لعاصفة الحزم وليس المشاركة.
لذا كانت المفاجأة حين وجد الإيرانيون العرب يستيقظون، وهنا أستعير مصطلح الاستيقاظ من «د. شرين عبادى» الإيرانية التى حصلت على جائزة نوبل ومن كتابها المبهر «إيران تستيقظ»، شرين عبادى كانت تكتب عن إيران 2009، عن الثورة المخملية التى قادها كروبى ومير حسين موسوى وخاتمى وللأسف فشلت، «عبادى» كانت تسترجع قسوة اندلاع الثورة الخومينية وكيف انحرفت عن المسار.
بلغة شيرين عبادى «استيقظ العرب عبر عاصفة الحزم وليست القضية والغاية فقط عاصفة الحزم بل الموضوع أكبر وهو توحدهم رغم خلافهم وشقاقهم، لأن الذين ينجحون فى التوحد حول هدف مثل عاصفة الحزم سيتوحدون عبر أهداف أخرى ومن هنا يتجلى الاندهاش والخوف الإيرانى»، إيران الآن فى وضع لا تحسد عليه وهى ترى مجهود سنوات طويلة مهدد بالضياع.
خيارات إيران:
إيران الآن ليس أمامها سوى التراجع والاعتراف بالهزيمة أمام قوات التحالف العربى فى اليمن، هى تعرف أنها لا تقف فى وجه العرب فقط بل تقف فى وجه العالم كله، بعد القرار الأممى الذى أكد وأقر المشروع الخليجى والعربى ضد الحوثيين وضدها مباشرة، إيران تعرف أيضاً أنها لن تستطيع المواجهة فى البحر الأحمر إذا أرادت أن تعبث بأمن مضيق باب المندب، وهى ترى البارجات البحرية المصرية تجوب المكان ومن فوقها طيران التحالف يمسح السماء.
هى لن تستطيع التصعيد وهى ترى حليفها «الحوثى» فى اليمن قد تم تدميره، وهكذا بقايا صالح ورجاله يفرون، ذراع الأخطبوط فى اليمن تم تقطيعها وما الحركة التى فيها سوى نزع الروح الأخيرة لما تبقى.
والأمر فى اليمن سينسحب على بيروت التى ظهرت لهفتها تجاه الاستغاثة بعاصفة الحزم واضحة على لسان سعد الحريرى ومن قبله وزير الداخلية، وهما يؤكدان أن عاصفة الحزم لن تكون لليمن فقط بل هى ضد قلاع الفارسية فى لبنان وسوريا والعراق وفى كل مكان، هذا أيضاً ظهر جلياً فى العراق حين أعلن أهالى الأنبار وعشائرها استغاثتهم من سطوة «داعش» وتقصير بغداد المتعمد بعد أن رفض أهالى الأنبار مشاركة ميليشيات الحشد الشعبى الإيرانى فى تحرير محافظتهم التى أصبحت غالبيتها فى قبضة «داعش».
العرب المقهورون والمعذبون بعروبتهم على نار المشروع الإيرانى يستجيرون بعاصفة الحزم وبيقظة العرب حتى لو جاءت متأخرة، وهنا رفع البعض علامة «لو» لو كانت هناك عاصفة للحزم وقت احتلال العراق ما تجرأت إيران ولا أمريكا على احتلاله.
المراوغة بالنفوذ:
فور إقرار القرار الأممى الداعم للمشروع العربى والخليجى خرج محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيرانى، يعلن التالى «أن إيران لديها نفوذ كبير على كثير من الجماعات فى اليمن وليس الحوثيين فقط وستستخدم نفوذها على هذه الجماعات من أجل الجلوس على طاولة المفاوضات».
علينا أن نحلل ما قاله جواد ظريف: أولاً هو يعترف أن لديه نفوذاً على الحوثيين وغيرهم وهذا الاعتراف يتنافى مع كلامه وكلام قادته بأنهم ليست لهم علاقة باليمن ولا بالحوثيين.
الشىء الأبرز أنه أعلن موقف بلاده الراضخ لما آلت إليه الأمور، وهو بذلك يقول إنه لن يلجأ إلى التصعيد وإنما يطلب أن يكون مقبولاً كطرف فى الشرق الأوسط، والمحصلة أنه يعترف بالهزيمة.
الإيرانيون أعلنوا أنهم سيقدمون خطة من أربع نقاط لم تختلف عما قالته السعودية أو حتى القرار الأممى «وقف إطلاق نار / مساعدات إنسانية / إجراء حوار / تشكيل حكومة».
ولكن وزير الخارجية السعودية وبعده سفير السعودية فى أمريكا أعلنا أنه لا وجود لإيران فى يمن المستقبل ولا على أى طاولة للحوار.
المحور الإيرانى الروسى:
إيران لطالما استقوت بروسيا الحليفة الدائمة لها ولكن ثمة متغيرات تجعل إيران خاسرة، وتجعل الروس يظهرون كمتراجعين عن الدعم الإيرانى:
أولاً: روسيا لم تحقق ما تريده إيران بوقف المشروع الخليجى فى مجلس الأمن، وكانت تقدر باعتبارها من الخمسة الكبار أصحاب حق النقض الفيتو ورغم ذلك امتنع الروس فقط عن التصويت وتركوا المشروع يمر وهى ضربة قوية لإيران.
أضف إلى ذلك أن الصينيين وهم حلفاء دائمون لإيران أيضاً وافقوا على القرار ولم يحققوا ما تريده إيران.
الشىء الآخر والمهم وهو ما يتعلق بصفقة صواريخ «إس 300» التى كانت موسكو قد أوقفت تسليمها لطهران عام 2010 بموجب قرار من الأمم المتحدة بفرض عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووى، إيران وقتها احتجت لأن صفقة الصواريخ هذه كانت قد وقعت عقدها فى 2007 بقيمة 800 مليون دولار وهى مهمة جداً لإيران لأنها تعادل صواريخ الباتريوت الأمريكية القادرة على إسقاط الطائرات، وهى تريدها لحماية مواقعها النووية المهددة أصلاً.
قبل إقرار القرار الأممى بيوم أعلن الكرملين رفع حظر تسليم هذه الصواريخ لإيران وكأنه أراد أن يرضيها، طبعاً الإيرانيون هولوا كثيراً واحتفلوا بهذا القرار، بل بالغ البعض بأن الحرب فى اليمن ستشتعل أكثر لأن إيران ستصبح فى حوزتها هذه الصواريخ المضادة للطائرات وربما تصل إلى يد الحوثيين، ولكن الحقيقة أنه مجرد قرار لا يتخطى أن يكون حبراً على ورق، أولاً لأن الكرملين رهن فك الحظر بإنهاء توقيع الاتفاق الإيرانى يوم 30 يونيو، ثانياً أنه قال سيبدأ النظر فى تطبيق القرار بعد 6 أشهر، والمهم أن هناك فرقاً بين القرار وتطبيق القرار.
روسيا التى تقوم بإنشاء المفاعل النووى الإيرانى الوحيد فى منطقة بوشهر تطمح إلى حجز مكان لها فى حالة تم توقيع الاتفاق الإيرانى النووى مع الغرب، وتم رفع العقوبات وانفتحت السوق الإيرانية الجائعة أمام الجميع.
محور إيران أمريكا:
لم يعد الحال الأمريكى مع إيران كما كان سابقاً وقت توقيع الاتفاق الإطارى فى أوائل أبريل الماضى وإنما تعكر الجو كثيراً، حسن روحانى الرئيس ومن فوقه على خامنئى المرشد وهكذا كثير من القيادات الإيرانية أعلنوا أنه لا توقيع لاتفاق نهائى إلا إذا رفعت العقوبات مرة واحدة، وهذا ما رفضه الأمريكيون لأنهم يصرون على أن تُرفع العقوبات بالتدريج حتى تصدق النوايا.
فى نفس الوقت أمريكا كمؤسسات كبيرة، لم يسكت الجمهوريون فى الكونجرس وهم أكثر الكارهين لإيران بل دفعوا فى اتجاه موافقة لجنة الشئون الخارجية فى مجلس الشيوخ بالإجماع على اقتراح يعطى الكونجرس حق الرقابة على أى اتفاق نهائى قد يتم مع الملف الإيرانى النووى، وبالتالى أى اتفاق سيتم قد يكون هناك تصويت يعرقله، هذا إذا افترضنا جدلاً أنه سيكون هناك اتفاق يوم 30 يونيو المقبل.
الشىء الآخر أن أمريكا أعلنت صراحة انحيازها للمشروع العربى، بل سارعت وفرضت عقوبات على الحوثيين وعلى عبدالله صالح وابنه، وقدمت إنذاراً شديد اللهجة ضد إيران إذا هرّبت أسلحة إلى الحوثيين.
فى المحصلة إيران باتت محاصرة بين كماشة العرب وكماشة الغرب، وكل حلفائها ضعاف، بشار الأسد يترنح وأكيد لن يكون بعيداً عن صحوة العرب بعدما فعله فى شعبه على مدار السنين الماضية.
وحسن نصرالله فى لبنان سينزوى بمشروعه الفارسى وستطاله اليد العربية الناهضة، وهكذا حلفاء إيران فى العراق لن يكونوا كما كانوا سابقاً، و الحوثيون فى اليمن إن عادوا سيعودون ضمن محيط عربى وفقط.