وكأنها لم تكن أسطورة، وكأنها كانت حقيقة منحت المصريات جينات التحدى والإصرار على الحفاظ على مصر، وعرشها حتى لو كان الثمن فلذات الأكباد. لا يهم، المهم أن تبقى مصر. هكذا منحتنا إيزيس المثل، وهكذا تركت لنا القدوة.
آه من غدر «ست» الطامع فى عرش، الحاسد لمحبة ونعم، الحاقد على الأخ ومكانته وزوجته وابنه المتساهل فى حق وطن. ملعون ذلك الشر القابع فى النفوس المنتظر للحظة الانقضاض على الضحية فى لحظة غفلة تكون معها النهاية. لا تردعه فضيلة ولا قيمة ولا ضمير عدمهم جميعاً، وإن ارتدى ثياب الكهنة. وهكذا كان مقتل «أوزوريس» فى لحظة تتكرر فيها أحقاد قابيل، حينما قتل أخاه هابيل. يواصل «ست» دناءته فيقطع جثة أخيه ويمزقها أشلاء، مبعثراً كل جزء منها فى قطعة من بلادى.
تحزن «إيزيس» ولكنها لا تجزع، تسارع باحتضان طفلها «حورس» فتنتقل به من مكان لمكان، تلملم أشلاء الزوج المبعثرة، تجمعها فى تابوت. تعلم الصغير حقه، تمنحه الوعى بذاته وبلاده وعرشه دون خشية من تكرار مصير أبيه، فالحق عهد والأرض عرض والشرف غال. يشب الصغير وعلى جبينه الثأر من قاتل أبيه، وفى يده سيف لم يبرحه حتى سال دم «ست»، ليستقر على رأس «حورس» تاج العرش مجدداً. حينها شعرت إيزيس بأنها أدت الرسالة وحافظت على الأمانة وصانت مصر، فتتوارى ولا يعلم أحد وماذا بعد.
وتتكرر الأسطورة بملامح مختلفة، يظل «ست» على شره وتظل إيزيس على موقفها كلما طلت رأس الشر. تجمع شتات الجميع، وتعد حورس للثأر لأبيه وأخيه وابنه وحماية وطنه. لا تخشى الموت أن يغتال حورس، فهى تعلم أن هناك من حورس الملايين سيتوارثون الدفاع عن كل ذرة رمل من أرض بلادى بالسليقة. تجرى فى عروقهم كرات دم النيل الممزوجة برائحة طميه وعبق خلوده وسريان مياهه. فيكونون هبة النيل لمصر لافتدائها من كل غاشم جاهل أعمى البصيرة والقلب. لا يعنيهم فى الحياة حياة، ولا يخيفهم أى «ست»، فهم قادرون بعون الله على أن يكونوا حورس.
تزف إيزيس أبناءها شهداء الحربية «على»، و«إسماعيل»، و«محمد» للسماء فرحة بشهادة نالوها بعد غدر «ست» بهم، تطلق زغاريد النصر الممزوجة بدموع الفراق. وتداوى «عمرو»، و«محمود» من مصابهم جراء انفجار كفر الشيخ وتضمد جرحهم، تمر على الرجال واحداً واحداً، تتلو فى آذانهم كلمات الثأر لإخوتهم من جماعة ست. تتناسى آلام الفراق فلا ترى إلا مصر. تشد من أزر الرجال ليكملوا المسيرة دون خوف أو تهاون أو لحظات انكسار. تحملهم الأمانة بأن مصر هى الباقية، وبأنهم حصاد شقا العمر و«سنينه» ليوم كهذا يأتى. تصر عليهم أن يحملوا الراية، وكلما سقط شهيد، فعلى مَن وراءه أن يكمل حمل الراية، وهكذا دوماً لآخر رجل وامرأة. تتقدم الصفوف شاحنة الهمم، وعلى يدها صغير من أشقاء «على»، و«إسماعيل»، و«محمد» حورس جديد اسمه إبراهيم، قررت أن تلحقه بالكلية الحربية عندما يشب العود. ويحك يا إيزيس دماء العيال غالية، فتردد بقوة: «نعم غالية وحارق القلب سيلانها، ولكن مصر أغلى وستبقى الأغلى»، وهكذا سكنت إيزيس وحورس الكلية الحربية.