إن مشكلة اضطراب «الإدراك العام» عند جماعات التطرف غير منفصلة عن مشكلة الإدراك الدينى، وغير منفصلة أيضاً عن مشكلة الإدراك السياسى، كلها محكومة بعقل «منفصل» عن الواقع! وفى أحيان كثيرة تحمل عقلاً منفصلاً عن التاريخ وتجاربه، ولا تتدبره حتى فى «الوحى الإلهى العظيم» الذى يزعمون اتباعه!
وإذا أردنا تجديداً دينياً يحل «مشكلة الإدراك العام» ويرفع «العدسات المضللة» التى يرى العقل من خلالها، لا بد من تغيير «ماكينة التفكير» أولاً، لا بد من تعليم الناس ليس المعلومات الصحيحة فقط، لكن أيضاً تعليمهم طريقة التفكير السليمة، وتدريس مناهج التفكير.
ومن الضرورة بمكان إعادة بناء المواد العلمية المختلفة: الرياضة، الفيزياء، الكيمياء، الأحياء،... إلخ، على أساس: «كيف تم التوصل إلى الحقائق والنظريات؟»، وعلى أساس الشك العلمى المنهجى، وليس على أساس تلقين الطلاب الحقائق «جاهزة ومعلبة»! والأمر فى تعليم العلم الرياضى والطبيعى هو نفسه الأمر فى تعليم الدين والعلوم الشرعية؛ فالقرآن الكريم لم يعطنا الحقائق جاهزة، بل عللها، وحثنا على تعقلها وفق قواعد التفكير المنضبط، بل حثنا على اكتشافها بأنفسنا سواء فى النفس أو فى الأرض أو فى الآفاق.
ومن نماذج الإيمان الدالة على هذا المعنى التى قدمها القرآن الكريم نموذج إبراهيم خليل الرحمن، فما من حقيقة كبرى فى دعوته إلا ومعها «طرق التوصل إليها»!
فالحقيقة وحدها لا تكفى، بل الطريقة أو المنهج. والعلم ليس سوى المعلومات عند أهل الحفظ، أما أهل العلم فالعلم عندهم ليس المعلومات فقط، إنما العلم هو المنهج، هو الطريقة، فالمنهج هو ما يصنع العلم وهو ما يصنع العلماء، وهذا هو ما نحتاجه ليس فقط لتأسيس عصر دينى جديد، بل كذلك لتأسيس عصر علمى جديد. ولذا تُدرس مناهج التفكير الدقيق فى كل مراحل التعليم فى مقررات الدول المتقدمة، سواء كجزء من كل علم، أو كمقرر منفصل. ومع أن ديكارت صار قديماً تجاوزته المناهج المعاصرة، فإن قواعد منهجه لا تزال عاملة كقواعد عامة ضمنية، فلا يزال التحليل خطوة لا يمكن للعلم أن يقفز عليها، وقل مثل ذلك فى إعادة التركيب والمراجعة والإحصاء، وقبل ذلك كله ألا يقبل العقل إلا ما كان واضحاً ومتميزاً. وأيضاً على الرغم من أن دعوة إبراهيم موغلة فى القدم، فإن الإسلام تضمنها وترجمها ترجمة صحيحة فى العقول، فظهرت معه كدعوة للتوحيد والتفكير والانضباط العقلى وألوهية تسع العالمين. أما الجناح الآخر من نسل إبراهيم فقد ترجمها ترجمة خاطئة فتحولت معه إلى ديانة قبيلة بنى إسرائيل، وعقيدة شعب الله المختار، وفى العصور الحديثة تحولت إلى صهيونية بغيضة.
إن المنهج عند ديكارت ليس تجريبياً، لكن ميزته أنه يرفض التسليم -على الأقل فى حدود المنهج وليس المذهب- بأقوال السابقين غير المبرهنة، مثله فى ذلك مثل إبراهيم، ولا يقبل إلا ما كان واضحاً ومتميزاً، مثله فى ذلك أيضاً مثل إبراهيم، ويقوم بتحليل الفكرة أو الأفكار، ويسير من البسيط إلى المركب، ثم يراجع كل ما قام به من خطوات سابقة حتى يتأكد أنه لم يخطئ وأنه لم يغفل شيئاً. ففى كتابه «مقال عن المنهج لإحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة فى العلوم» يضع أربع قواعد يجب مراعاتها فى كل منهج يبحث عن الحقيقة، وتكفى هذه القواعد، إذا ما تم اتباعها بدقة، للوصول إلى اليقين. وتُعرف هذه القواعد على التوالى باسم: البداهة، التحليل، التركيب، الإحصاء والمراجعة. ويحدد ديكارت مضمون هذه القواعد الأربع بقوله:
«الأول: ألا أقبل شيئاً ما على أنه حق، ما لم أعرف يقيناً أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أُدخل فى أحكامى إلا ما يتمثل أمام عقلى فى جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدىّ أى مجال لوضعه موضع الشك.
الثانى: أن أقسم كل موضوع من الموضوعات التى سأختبرها إلى أجزاء على قدر المستطاع، على قدر ما تدعو الحاجة إلى حلها على خير الوجوه.
الثالث: أن أسير أفكارى بنظام، بادئاً بأبسط الأمور وأسهلها معرفةً؛ كى أتدرج قليلاً حتى أصل إلى معرفة أكثرها تركيباً، بل أن أفرض ترتيباً بين الأمور التى لا يسبق بعضها الآخر بالطبع.
والأخير: أن أعمل فى كل الأحوال من الإحصاءات الكاملة والمراجعات الشاملة ما يجعلنى على ثقة من أننى لم أغفل شيئاً».
إن هذا المنهج أو القواعد العقلية لليقين يمكن تعريفها كأساس للتطور والحداثة وإنتاج معرفة علمية أدت إلى زعزعة عرش المعرفة اللاهوتية والكهنوت والأسرار التى يحتكرها سدنة الفكر الدينى المزيف.
فالغرب لم يدخل العصور الحديثة إلا بعد أن تغيرت «ماكينة التفكير» التى يفكر بها البشر، أى تغيير المنهج، أى تغيير الطريقة والقواعد التى يعمل بواسطتها العقل ليس فى المعامل فقط، لكن أيضاً فى الشارع والمؤسسات، من أسفل إلى أعلى، ومن أعلى إلى أسفل. وليس هذا تراثاً غربياً خالصاً، بل هو تراث إنسانى عام، وهو أيضاً تراث دينى تم رصده فى دعوة أبى الأنبياء (خليل الرحمن)، واستمر مع محمد (صلى الله عليه وسلم).