فى مقال سابق بـ«الوطن» وصفت اليمن «برجل الجزيرة العربية المريض» الذى قرر أن ينتحر يأساً أو بؤساً! فاليمن الذى عُرف فى التاريخ «بالعربية السعيدة» كأكثر أصقاع شبه الجزيرة العربية يُمناً وازدهاراً، انقلب حاله فصار أكثرها فقراً وعوزاً وأقلها أمناً واستقراراً، جار فقير لم يجد له مكاناً فى «نادى الجيران الأغنياء». ولما عيل صبره فى انتظار دعوة الدخول قرر أن يهدم المعبد على رأسه وعلى رؤوس جيرانه، صار دولة فاشلة، بالمقاييس الدولية، والأصح قرر أن يكون «لا دولة» فى إقليم انتزع المرتبة الأولى عن جدارة فى عدد الدول الفاشلة، الصومال والعراق وسوريا وليبيا، لكن اليمن يختلف عن الجميع فى السبق التاريخى، فهو قد بدأ قبلهم، حتى من قبل أن تبدأ «نكبات» الربيع العربى!
لسنوات طويلة واليمن يتخبط فى براثن الفوضى، ليس صحيحاً أن نظام على عبدالله صالح الذى عمر طويلاً كان نظام حكم مستقراً، كان فقط نظاماً يعيش على «توافقات» قبلية وإقليمية قصيرة الأجل، لكنه كان على بركان مكتوم ما لبث أن انفجر فى فبراير 2011، نظاماً يفعل الشىء ونقيضه، لا بأس أن يقاتل الحوثيين ويتعقبهم حتى معاقلهم الشمالية فى صعدة، ثم يستدير فيحالفهم ويحرضهم على الانقضاض على الشرعية ونظام الحكم الذى خلفه، ويمكنهم من العاصمتين صنعاء وعدن، كان يحارب من أجل الوحدة ويعمل كل ما هو فى خدمة الانفصال، وبدلاً من دولة واحدة يقترح حزبه دولة من ستة أقاليم! حاول أن يبنى جيشاً عصرياً لكن قيادته عائلية وتشكيلاته قبلية وسلاحه يتسرب إلى البطون والأفخاذ والعشائر التى تدين له بالولاء، أعلن الثورة على القات وراح يمتنع أمام الإعلام عن «تخزينه»، ويسكت فى الوقت نفسه عن اقتلاع أشجار البن، محصول اليمن التاريخى ومصدر شهرتها، ويستبدل بها أشجار القات، كان صالح يحكم شعباً يقضى نصف نهاره فى أسواق القات والنصف الآخر فى «تخزينه»، كان حليفه الشيخ عبدالله الأحمر، شيخ مشايخ قبائل حاشد، هو معارضه فى نفس الوقت ورئيس مجلس نوابه وزعيم حزب التجمع من أجل الإصلاح المعارض ذى الأغلبية الإخوانية، وهو فوق كل ذلك كان أكبر محتكر لزراعة القات وتجارته فى اليمن! لماذا نذهب بعيداً فى البحث عن أسباب الأزمة اليمنية الراهنة، التى تتسع رقعة النار التى خلفتها فأصبحت أزمة إقليمية بامتياز، مرشحة بحكم المصالح الدولية الكبرى المتنامية حول باب المندب والخليج العربى والبحر الأحمر أن تكون أزمة عالمية؟! علينا أن نفتش، فى حكم صالح وفى لوحة التناقضات التى كان يتحرك عليها، عن أسباب الأزمة اليمنية الراهنة التى أيقظت مطامع نائمة وأخرى متوارية وفتحت الباب على مصراعيه لمعارك مؤجلة لم يأت أوانها، فإذا بنا أمام مشاهدها الساخنة، بعينى رأسى رأيت نجم «القاعدة» وهو يبزغ فى اليمن، وشاهدت طلائع العرب الأفغان وهم يتدفقون على جبال اليمن وسهولها، وينتشرون فى القرى النائية على قمم الجبال أو فى كهوفها، فى صيف 2003 كان قد مضى عامان على أحداث 11 سبتمبر 2001 كنت أسافر على الطريق الملتف حول الجبال بين صنعاء وتعز، وفى زاوية جبلية على الطريق كان جماعة من الشباب، يتلقون تدريبياً عسكرياً ويرددون شعارات إسلامية ويرفعون علم «القاعدة» الأسود، رجوت السائق أن يتوقف قليلاً، ترجلت والشباب منهمكون فى تدريباتهم، لم يُبدوا اكتراثاً بوجودى حتى غادرت المكان! واكتشفت وأنا فى اليمن أن «للقاعدة» وجوداً قوياً فى صنعاء وجامعة دينية هى «جامعة الإيمان» يديرها مقربون من النظام ويرأسها الشيخ عبدالمجيد الزندانى زعيم حزب الإصلاح الإخوانى، وتفتح الجامعة أبوابها للمجاهدين العائدين من أفغانستان وتتيح لهم فرصاً للتعليم والرعاية، وتستخدم أساتذة يتقاضون أجوراً تفوق أجور نظرائهم فى الجامعات الحكومية! وهى الجامعة الوحيدة التى يتلقى طلابها مكافأة شهرية، وهى أيضاً الوحيدة التى تسمح لطلابها بحمل السلاح!
فى حفل عشاء فى منزل السفير الأردنى فى عمان وقفت أتبادل الحديث مع السفير الأمريكى فى صنعاء، كان الرجل يتباهى مزهواً بالتعاون الأمنى مع الرئيس على عبدالله صالح فى مكافحة الإرهاب! تكتمت ضحكة ساخرة ورحت أغير دفة الحديث! كانت ليلة شتوية وكأنما أرادت السماء ذاتها أن تسخر معى فبدأت ونحن نغادر منزل السفير الأردنى تغير من طبائعها وأخذت ترعد وتبرق! الآن تبدلت المواقع والمواقف، أصبح الحوثيون أعداء صالح حلفاءه، وبدونه لم يكن بمقدورهم أن يدخلوا العاصمة أو يسقطوا الرئيس الشرعى أو يفرضوا سلطانهم وسطوتهم على البلاد، وأصبح الإصلاحيون الإخوان فى المعسكر المقابل للحوثيين، ورديفاً محلياً للتحالف العربى، لكن هل يغير الإخوان اليمنيون -وقد أعلنوا تضامنهم مع عاصفة الحزم- جلودهم وموقفهم من النظام الجديد فى مصر الذى أصبح رقماً مهماً فى التحالف المناهض للحوثيين وحلفائهم الإقليميين؟! وهل يتبرأون من الإخوان المصريين الذين خذلوهم فى المعركة ضد الحوثيين، بل وصاروا شوكة فى ظهر التحالف العربى؟! أغلب الظن، وليس كل الظن إثم، أن الإخوان، يمنيين كانوا أو مصريين، ليسوا فوق مستوى الظنون والشبهات، وينبغى ألا نترك ظهورنا عارية لهم! ومعضلة التحالف العربى فى اليمن التى تعطل تقدمه على الأرض، وتؤخر ساعة الحسم الأخيرة للمعركة التى يخوضها، أنه يفتقد الحليف المحلى المنظم والقوى. فالرئيس الشرعى هادى منصور ضعيف ومتردد وليس له ظهير سياسى أو شعبى، إنه كائن فى حالة موت إكلينيكى وضعه التحالف تحت أجهزة التنفس الصناعى فى انتظار ساعة الأجل، اليمن فى حاجة إلى بديل قوى، ليس صالح وليس الحوثيين، وليس القاعدة، علينا أن نعترف أننا قصرنا مع اليمن، قصَّرت مصر صاحبة الدور والرسالة التاريخيين فى اليمن، وتركته لم تكمل الدور والرسالة وأغمضت عينيها عنه طوال ثلاثة عقود تجاهلت فيها حتى مصالحها، وقصَّر جيران اليمن الأغنياء وتركوه يتضور جوعاً وفقراً، وعاقبوه على جرائم على صالح التى لم يكن لليمنيين ناقة فيها ولا جمل. أخطأ صالح يوماً وعض يد جارته التى فاضت عليه خيراً وبركة، وبارك غزو صدام المشئوم للكويت فردوا عليه بمليون يمنى مطرود من الخليج فى ليلة واحدة، جاءوا يطالبون صالح -وهو لا يملك- بالعمل والسكن والطعام! هل ترك أحد، مصر أو الخليج، سبيلاً آخر لليمن إلا قراره بالانتحار!