تنام "دفراوى".. تصحى "بسخرون"
قليلون فقط فى الحى العريق هم من يعرفون حكايته، لكنهم لا يبادرون بقصها، يتركونه إلى هوايته المفضلة، المزاح الذى يصل أحياناً إلى حد «الاشتغالة». لا يمل الرجل هذه المراوغات مع كل من تطأ قدماه الحى لأول مرة، يقدم نفسه قائلاً: «محسوبك الحاج حسب الله الدفراوى»، يساعده فى الوصول إلى مراده، لكن بعد أن يتأكد من هويته وغرضه، وأنه لا يحمل سوءاً للمنطقة وأهلها، علاقة الود التى ينشئها مع الجميع قد تصل إلى تبادل أرقام التليفون، ليفاجئ سائله: «سجلنى بقى باسمى الحقيقى.. فهمى بسخرون».
هنا يصمت السائل، وقد يغادره غضباً من الاشتغالة، ينهار «بسخرون» ضحكاً وهو يناديه: «خد هنا تعالى أنا بهزر معاك.. إيه مستغرب إكمنى مسيحى وقاعد فى الأزهر؟»، يفحصه السائل بعينيه بحثاً عن صليب معلق فى رقبة أو محفور على يد، فيفضح «بسخرون» نظراته، ويواصل ضحكه: «ما تتعبش نفسك، مش هتلاقى صليب، عمرى ما دقيته فى جسمى، لكنه محفور فى قلبى».
عادته أصبحت يومية، وضحايا مزاحه أصبحوا بالمئات قبل أن يتحولوا إلى أصدقاء، لا يمر يوم عليه إلا وله فيه ضحية، يصدقه فى البداية ثم يكتشف حقيقته الساخرة، على هذا الحال منذ أن وطئت قدماه شارع الأزهر، فى البداية كان «بسخرون» محور حديث أهالى المنطقة، لم يعتادوا سكن المسيحيين بينهم، نظراً لطبيعتها الدينية، ولم يعتادوا مزاحه وتغيير اسمه، بعضهم بادره: «انت عليك تار ومتخفى هنا وخايف حد يعرفك؟»، يضحك الرجل دون أن يجيب بتأكيد الرواية أو نفيها.
الصليب الذى يحمله «بسخرون» فى قلبه، لم يغنه عن حفظ آيات القرآن الكريم فى عقله، فهى الإرث الذى حمله من سنوات عشرته بأهالى المنطقة، يجلس «بسخرون» بينهم فى محله لبيع الخيوط، يروى لهم حكايات 70 عاماً قضاها مترجلاً بين بلاد الله، لم تفته قرية أو نجع أو مركز صغير، يبيع خيوط الترتر والقطان ولوازم الجلباب الصعيدى والفلاحى ويبيع معها حكايات القاهرة، لا يوقف حديثه سوى سيارة تقترب من محله، يهب الرجل مدافعاً عن كنزه، مبادراً بالعراك مع صاحبها: «هى كلمة واحدة، مفيش عربية هتركن قدامى.. البلد ماعادتش أمان»، قناعة رسختها لديه متابعته اليومية لبرامج التليفزيون وأحاديث جيرانه: «لو حد جه وقف جنب المحل 5 دقايق بشك فيه، ولو وقعت من حد شنطة بالصدفة يبقى أمه دعت عليه».
4 رجال وابنتان، خرج بهم من الدنيا، كان يتركهم بالأيام فى محله بالأزهر، ويقضى هو رحلاته فى قرى ونجوع مصر يبيع الخيوط، ليلة واحدة كانت نصيب الأبناء مع أبيهم أسبوعياً، قبل أن تغير الدنيا وجهها، وتنقلب أوضاعها: «سبتهم لوحدهم سنين، وجه الوقت اللى هما سابونى فيه، أنا مش زعلان منهم، وربنا يعلم أنا سبتهم عشان مصلحتهم، وهما سابونى عشان مصلحتهم برضه».